العمارة في حماة عبر العصور: دراسة مقارنة للتطور المعماري وانعكاساته السياسية والاجتماعية

محتوى المقالة
مقدمة
تُعد مدينة حماة، الواقعة في قلب سوريا على ضفاف نهر العاصي، من أقدم المدن المأهولة في العالم، حيث استمرت فيها الحياة دون انقطاع منذ الألف السادس قبل الميلاد، حسبما كشفت الحفريات الأثرية في قلعتها. يتميز موقعها الجغرافي بكونه استراتيجيًا، حيث يربط بين المناطق الجبلية والبادية، ويُشكل نقطة وصل حيوية بموانئ البحر الأبيض المتوسط. تشتهر حماة بشكل خاص بنواعيرها العملاقة، وهي آلات مائية خشبية تاريخية تعود أصولها إلى العهد الآرامي، وتُعتبر رمزًا مميزًا للمدينة.
إن استمرارية الحياة في حماة وقدرتها على الازدهار على مر العصور ترجع بشكل كبير إلى عاملها الجغرافي والطوبوغرافي الفريد. إن وجود نهر العاصي الذي يمر عبر المدينة، ودور النواعير في رفع المياه لري “شريط واسع من البساتين” ، يُظهر كيف أن التكيف مع البيئة المحيطة قد أدى إلى ابتكارات معمارية مبكرة. هذه الابتكارات لم تكن مجرد حلول هندسية، بل كانت أساسًا لاستدامة المدينة ونموها الحضاري، مما يؤكد أن بقاء حماة وتطورها العمراني كانا متجذرين بعمق في قدرتها على تسخير مواردها الطبيعية. هذه العلاقة الأساسية بين الجغرافيا والعمارة شكلت نقطة الانطلاق لتطور المدينة عبر العصور، حيث تفاعلت معها التحولات السياسية والاجتماعية اللاحقة.
يهدف هذا المقال إلى تتبع مسار التطور المعماري في مدينة حماة، بدءًا من العصور الأيوبية والعثمانية وصولاً إلى البيوت والمنشآت الحديثة. سيركز البحث على تقديم دراسة مقارنة تحليلية توضح كيف عكست هذه التحولات المعمارية التغيرات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدتها المدينة عبر تاريخها الطويل. وعلى الرغم من أن العنوان يشير إلى “قرن”، فإن الدراسة ستغطي حقبًا تاريخية متعددة – الأيوبية، والعثمانية، والحديثة – لتقديم تحليل شامل للتطور المعماري، بما يتجاوز الإطار الزمني الضيق للقرن الواحد ليشمل الفترات التي شهدت تحولات معمارية جوهرية.
الفصل الأول: العمارة الأيوبية في حماة: سمات القوة والتقشف
السياق التاريخي والسياسي لحماة في العصر الأيوبي
دخلت حماة تحت حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي في سنة 570 هـ (1174 م)، بعد أن بسط سيطرته على البلاد الشامية والمصرية. كانت المدينة ذات أهمية استراتيجية كبيرة ضمن الدولة الأيوبية، مما دفع صلاح الدين إلى تعيين خاله، شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، واليًا عليها. شهدت هذه الفترة صراعات مستمرة، سواء مع الصليبيين، كما حدث في حصار الفرنجة لحماة في سنة 572 هـ، أو حروب داخلية بين الأمراء الأيوبيين أنفسهم، مما أثر على تبعية المدن المحيطة بحماة.
تولى الملك المظفر تقي الدين عمر، ابن أخ صلاح الدين، حكم حماة بعد وفاة الحارمي، ونجح في توسيع نفوذ حماة لتشمل مناطق مثل منبج والمعرة وكفرطاب وميافارقين، ولاحقًا اللاذقية، مما يعكس قوة الإمارة الحموية في تلك الفترة. إلا أن المدينة تعرضت لغزو المغول في سنة 657 هـ (1259 م)، حيث دمر هولاكو أجزاء واسعة من المدينة وقلعتها، وأمر بتخريب أسوار القلعة وحرق الذخائر وبيع الكتب، مما أبرز الدمار الشامل الذي لحق بالمدينة. ورغم ذلك، تم استعادة حماة لاحقًا من المغول بجهود السلطان المظفر قطز، وعادت تبعيتها لملوك الأيوبيين، مما يدل على مرونة المدينة وقدرتها على التعافي.
انتهى حكم الأيوبيين في حماة بعزل الملك الأفضل محمد في سنة 742 هـ (1341 م) ونقله إلى دمشق، مما أدى إلى زوال لقب “ملك” من حماة وتولي “حاكم” أو “نائب” بدلاً منه، وهو تحول يعكس تراجعًا في الاستقلالية المحلية.
الخصائص المعمارية الأيوبية
تميزت العمارة الأيوبية في حماة بـ”التقشف وعدم الإسراف في الزخرفة”، وهو ما يُعزى بشكل مباشر إلى حالة الحرب المستمرة مع الصليبيين. كان هناك تركيز كبير على “القوة وإتقان التخطيط والبناء، ودقة النسب، مع ضخامة المنشآت” مقارنة بالعصور السابقة. اعتُمد “الشكل المكعب البسيط” في العمارة، والذي أصبح الشكل المهيمن في العمارة الإسلامية، حيث يوفر واجهات بفتحات قليلة وصغيرة من الخارج لضمان الخصوصية الاجتماعية، وصحنًا داخليًا مفتوحًا يوفر الإضاءة والتوزيع الحراري المناسب.
تم تزيين الواجهات الداخلية والخارجية بـ”أشرطة كتابية بخط الثلث وأحيانًا الكوفي المربع”. وشهدت الفترة تطورًا في النقوش الخشبية، خاصة في المنابر وتوابيت الأضرحة. استُخدم الحجر الكلسي الأبيض والبازلت في البناء، خاصة في الأبواب وبعض الفتحات، بنمط “الأبلق” الذي يعتمد على التناوب بين الحجرين.
أمثلة بارزة للمنشآت الأيوبية في حماة
تركز المصادر بشكل أكبر على المنشآت العسكرية والدينية الأيوبية بدلاً من القصور السكنية البارزة. من أبرز هذه المنشآت:
- قلعة حماة: تعرضت للتخريب وإعادة البناء عدة مرات، خاصة بعد زلزال 552 هـ حيث أعاد نور الدين بناءها، ثم دمرها المغول لاحقًا.
- سوق المنصورية (يُعرف حاليًا بسوق الطويل): بناه الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر الأيوبي.
- حمام العبيسي: يُنسب بناؤه إلى الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء.
- قلعة المعرة: أعاد بناءها الملك المظفر محمود الأيوبي.
- مدرسة: بناها الملك المنصور محمد بجانب تربة والده تقي الدين عمر.
الانعكاسات السياسية والاجتماعية على الطراز المعماري الأيوبي
عكست العمارة الأيوبية في حماة، بسماتها التي جمعت بين الضخامة والتقشف، الواقع السياسي والاجتماعي للعصر. فالتأكيد على “ضخامة المنشآت” لم يكن تعبيرًا عن البذخ، بل عن الحاجة الملحة إلى التحصين والدفاع في ظل الصراعات المستمرة مع الصليبيين. كانت الأولوية للمتانة والوظيفة العسكرية على حساب الزخرفة المفرطة، مما يُفسر ندرة القصور السكنية الفخمة الباقية من تلك الفترة. القصور، إن وجدت، كانت غالبًا جزءًا من مجمعات دفاعية أو إدارية، تعكس تركيز الدولة على البقاء والأمن بدلًا من إظهار الثراء الخاص.
إن غياب الوصف التفصيلي للقصور الأيوبية السكنية الفخمة، على عكس ما هو متاح عن قصر العظم العثماني، يشير إلى أن هذا النمط من البناء لم يكن شائعًا أو لم يصمد أمام ويلات الحروب المتكررة والزلازل المدمرة. فالتدمير المتكرر الذي لحق بالمدينة، خاصة على يد المغول، أدى إلى محو أجزاء كبيرة من نسيجها العمراني. هذا الأمر يشير إلى أن العمارة السكنية الأيوبية كانت أقل استدامة أو فخامة من نظيرتها العثمانية اللاحقة، مما يعكس مجتمعًا كان يعيش في حالة تأهب دائم، ويوجه موارده نحو البنية التحتية الدفاعية والعامة بدلاً من التفاخر بالملكيات الخاصة.
كما أن اعتماد الشكل المكعب البسيط والفناء الداخلي في العمارة السكنية يعكس القيم الاجتماعية الإسلامية التي تؤكد على حماية حرمة البيوت والعائلات، وهي سمة استمرت عبر العصور. ومع ذلك، فإن “تناقص العمران” الذي شهدته حماة في فترات مبكرة من الحكم الإسلامي، بسبب هجرة السكان وتغير مراكز القوى السياسية نحو بغداد والعراق، يُظهر أن الازدهار المعماري ليس ثابتًا، بل يتأثر بشكل كبير بالتحولات السياسية الكبرى.
الفصل الثاني: العمارة العثمانية في حماة: فخامة القصور وخصوصية البيوت
السياق التاريخي والاجتماعي لحماة في العصر العثماني ودور عائلة العظم
شهدت مدينة حماة ازدهارًا معماريًا وثقافيًا ملحوظًا خلال الفترة العثمانية، التي بدأت في القرن السادس عشر. برزت عائلة العظم كواحدة من أبرز العائلات الحاكمة وأكثرها نفوذًا في سوريا العثمانية خلال القرن الثامن عشر، ويُعتقد أن أصولها تركية. بدأ صعود العائلة مع إبراهيم العظم، وواصل أبناؤه، إسماعيل باشا وسليمان باشا، تعزيز نفوذهم من خلال الحصول على مزارع ضريبية وراثية في مناطق واسعة تشمل حمص وحماة ومعرة النعمان، مما منحهم سيطرة اقتصادية وسياسية كبيرة.
تولى أسعد باشا العظم، حفيد إبراهيم، حكم حماة قبل أن يُعين حاكمًا لدمشق في عام 1743. خلال فترة حكمه في حماة، أمر ببناء قصر العظم كمقر إقامته، والذي سرعان ما أصبح رمزًا للثروة والنفوذ المتزايدين للعائلة. استمرت الأسرة العظمية كقوة مهيمنة في سوريا حتى مجيء حزب البعث في عام 1963، حيث صودرت أملاكهم وتم إقصاؤهم عن المشهد السياسي والاقتصادي، مما يمثل نهاية عصر النفوذ التقليدي.
تُشير بعض المصادر إلى فترات من الظلم والنهب من قبل المتسلمين الذين يعينهم الوالي العثماني، مما أدى إلى هجرة السكان وتناقص العمران في القرن التاسع الهجري، مما يدل على تباين في مستويات الاستقرار والازدهار خلال الفترة العثمانية الطويلة. ومع ذلك، في أواخر العهد العثماني، وتحديدًا في عام 1881، أكد أعيان حماة (مسلمون ومسيحيون) دعمهم للدولة العثمانية وسلطانها، مما قد يشير إلى فترة من الاستقرار النسبي والولاء للسلطة المركزية.
الخصائص المعمارية العثمانية
تأثرت العمارة العثمانية في سوريا بالأنماط التي جلبها العثمانيون من موطنهم الأصلي، خاصة من اسطنبول، حيث كانت بعض العمائر نسخًا لما هو موجود لديهم، مثل التكية السليمانية في دمشق. من السمات الأساسية في القصور العثمانية هي “الأفنية المتعددة”؛ فقصر العظم في حماة، على سبيل المثال، يضم ثلاثة أفنية رئيسية، كل منها يخدم غرضًا محددًا.
يعكس “تقسيم المساحات إلى أقسام للرجال (السلاملك) وأخرى للنساء (الحرملك)” التقاليد الاجتماعية الصارمة للعصر العثماني، ويوفر الخصوصية والراحة لساكني القصر. تُعد “الزخارف الخشبية العجمية” من أبرز عناصر الزخرفة، وهي تقنية رسم وتذهيب على الألواح الخشبية ازدهرت في سوريا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتتميز باستخدام الجص المغطى بأوراق الذهب والقصدير والدهانات الزاهية لخلق أسطح غنية بالتفاصيل. غالبًا ما تُوجد “القباب الكبيرة” فوق قاعات الاستقبال الرئيسية، مدعومة بأقواس ومعقودات مقرنصة، مما يضفي إحساسًا بالعظمة والفخامة على الفراغ الداخلي.
تُستخدم “النوافير الرخامية والحدائق” في الأفنية الداخلية لتوفير جو هادئ ومريح وتبريد الهواء، مما يعكس الاهتمام بالبيئة الداخلية. “الإيوان” هو مساحة مفتوحة مسقوفة، غالبًا ما تُوضع على الواجهة الشمالية للاستفادة من النسيم البارد، وتُستخدم كمكان للجلوس والاستقبال. ولضمان الخصوصية، استُخدمت “المشربيات” (شرفات أو شبابيك خشبية مغطاة تسمح بالرؤية من الداخل دون أن يُرى من الخارج) و”المداخل غير المباشرة” التي تُصمم بشكل متعرج لمنع الرؤية المباشرة إلى داخل المنزل. كما استمر “استخدام الحجر الكلسي الأبيض والبازلت” بنمط الأبلق، وهو أسلوب معماري يعتمد على التناوب بين الحجرين ذوي اللونين المختلفين.
قصر العظم كنموذج أيقوني
يُعد قصر العظم، الذي بُني على يد أسعد باشا العظم في عام 1742 م (1153 هـ)، أبرز مثال على العمارة العثمانية في حماة. أكمله أبناؤه، وتحول من مقر للحكم إلى مكان خاص بالحريم، ثم أُضيف قسم خاص بالرجال والضيوف، مما يعكس تطور استخداماته. يتميز بتصميمه الذي يتكيف مع التضاريس المائلة نحو نهر العاصي، حيث بُني على مستويات متعددة ويضم أكثر من سبعين غرفة. يُستخدم القصر حاليًا كمتحف أثري إقليمي يعرض قطعًا أثرية من حماة ومحيطها. ورغم تعرضه لأضرار خلال أحداث حماة عام 1982، فقد خضع لجهود ترميم واسعة النطاق بعد عام 2005.
البيوت التقليدية العثمانية في حماة
تتميز هذه البيوت بتصميمها الذي يرتكز على الفناء الداخلي، وهو عنصر أساسي في العمارة العربية الإسلامية يوفر الخصوصية والراحة للعائلة. تتضمن عادة قبوًا للاستخدامات المتعددة، وطابقًا أرضيًا (السلاملك) للمناطق العامة واستقبال الضيوف، وطابقًا علويًا (الحرملك) للمناطق الخاصة بالعائلة، مما يعزز الفصل بين المساحات العامة والخاصة. يُستخدم في بنائها مواد محلية مثل الحجر البازلتي والطين، مما يوفر عزلًا حراريًا ممتازًا.
تُصمم هذه البيوت لتناسب المناخ الحار والجاف، مع التركيز على التهوية الطبيعية والتظليل، مما يجعلها مستدامة بيئيًا. تُستخدم النوافير في الفناء لتبريد الهواء وحجب الأصوات الخارجية، مما يعزز الخصوصية الصوتية ويخلق بيئة هادئة.
من الأمثلة الأخرى على القصور والمنشآت العثمانية: قصر محمد باشا الأرناؤوط (الذي أضيف إليه طابق في فترة الاحتلال الفرنسي وتحول إلى دار حكومة ثم سجن) ، والعديد من الحمامات التاريخية مثل حمام الذهب، القاضي، الدرويشية، الحلق، المؤيدية، الشيخ، العبيسي، والمدار. كما توجد خانات قديمة مثل خان أسعد باشا العظم وخان رستم باشا.
الانعكاسات الاجتماعية والسياسية على العمارة العثمانية
عكست العمارة العثمانية في حماة، وخاصة القصور الفخمة مثل قصر العظم، تحولًا في طبيعة السلطة والنفوذ. فبينما كانت العمارة الأيوبية تركز على التحصينات الدفاعية، أتاح الاستقرار النسبي في العصر العثماني للعائلات المحلية القوية، مثل آل العظم، ترجمة ثروتها ونفوذها إلى صروح معمارية فاخرة. لم يكن قصر العظم مجرد سكن، بل كان “رمزًا للثروة والسلطة” ، مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين العمارة والنفوذ السياسي.
إن العمارة العثمانية في حماة لم تكن مجرد استنساخ للأنماط الإمبراطورية القادمة من اسطنبول ، بل كانت مزيجًا معقدًا بين التأثيرات المركزية والتقاليد المحلية المتجذرة. ففي حين أُدخلت عناصر جديدة مثل القباب الكبيرة والزخارف العجمية، حافظت البيوت التقليدية على مبادئ التصميم الأساسية كالفناء الداخلي والمشربيات والمداخل غير المباشرة، التي كانت تلبي الاحتياجات الاجتماعية والثقافية المحلية المتعلقة بالخصوصية وكرم الضيافة.
هذا التوازن بين النمط الإمبراطوري والهوية المحلية يعكس واقعًا سياسيًا سمح ببروز نخب محلية تتمتع بدرجة من الاستقلالية، قادرة على بناء قصور تعبر عن مكانتها دون التخلي تمامًا عن الطابع المحلي.
كما أن التمايز الواضح بين القصور الضخمة ذات السبعين غرفة والأفنية المتعددة والبيوت التقليدية التي وصفت بأنها “صغيرة وبسيطة” يُظهر بوضوح التفاوت الطبقي والاجتماعي في حماة العثمانية. كانت القصور بمثابة بيانات معمارية قوية تعكس الثراء المتراكم والمكانة الاجتماعية والسياسية للنخبة الحاكمة.
تصميمها المعقد، بما في ذلك الفصل الصارم بين “السلاملك” و”الحرملك” ، لم يكن مجرد تفضيل جمالي، بل كان يعزز التسلسل الهرمي الاجتماعي ويُبرز مكانة العائلة. وهكذا، أصبح النسيج العمراني للمدينة مرآة تعكس توزيع الثروة والسلطة، حيث كانت البيئة المبنية بمثابة مؤشر مرئي للطبقة الاجتماعية والنفوذ خلال العصر العثماني.
الفصل الثالث: العمارة الحديثة في حماة: تحولات القرن العشرين وما بعده
السياق السياسي والاجتماعي في حماة خلال القرن العشرين وما بعده
شهدت حماة في القرن العشرين تحولات سياسية واجتماعية عميقة تركت بصماتها على نسيجها العمراني. خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946)، كانت حماة معقلًا مهمًا للحراك الوطني والمقاومة ضد الاحتلال. لعبت العائلات الحموية التقليدية، مثل آل العظم وآل الكيلاني، دورًا محوريًا في دعم الحركات الوطنية، وظهر ذلك جليًا في ثورة حماة عام 1925 التي كانت أحد مراكز المقاومة البارزة، مما أدى إلى قمع فرنسي عنيف شمل القصف والاعتقالات.
إن هذه المقاومة الشديدة ضد الانتداب الفرنسي لم تكن مجرد حراك سياسي، بل كانت تعبيرًا عن رغبة عميقة في الحفاظ على الهوية المحلية وأساليب الحياة التقليدية. هذا التوجه المحافظ قد يكون قد أثر على تقبل المدينة للأنماط المعمارية الأجنبية أو مفاهيم التخطيط العمراني التي فرضها الاحتلال، مما خلق توترًا بين الحفاظ على الأشكال التقليدية وتأثير الحداثة.
بعد الاستقلال (1946-1970)، شهدت حماة نشاطًا سياسيًا ملحوظًا، وبرزت كمعقل للمحافظين الإسلاميين، مما جعلها مركزًا مؤثرًا في تشكيل الحياة السياسية السورية. ومع وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، صودرت أملاك آل العظم وتم إقصاؤهم عن المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي. هذا التحول يمثل تغييرًا جوهريًا في بنية السلطة والتحكم الاقتصادي. فقدان النخبة التقليدية نفوذها الاقتصادي والسياسي أثر بشكل مباشر على رعاية العمارة، حيث كانت هذه العائلات تاريخيًا هي من تكلف ببناء المساكن الخاصة الفخمة. من المرجح أن المشاريع المعمارية الجديدة تحولت نحو المشاريع التي ترعاها الدولة أو تلبي احتياجات طبقة صاعدة حديثًا، مما أدى إلى تراجع في بناء القصور الخاصة الفخمة وربما توحيد أنماط العمارة السكنية.
تصاعدت التوترات بين النظام الجديد والمجتمع الحموي المحافظ خلال فترة حكم البعث (1970-1980)، خاصة مع سياسات التأميم والإصلاح الزراعي. وبلغت هذه التوترات ذروتها في أحداث حماة عام 1982، التي تُعد واحدة من أبرز الأحداث الدامية في تاريخ سوريا الحديث. قمع النظام انتفاضة قادتها جماعة الإخوان المسلمين، وأسفرت المجزرة عن مقتل الآلاف وتدمير واسع للأحياء التاريخية، خاصة حي الكيلانية الذي دمر بالكامل، وتضررت أحياء الزنبقي والشجرة والطوافرة. كما تم قصف الجامع الكبير وتدمير الكنيسة القديمة والمتحف.
هذه الأحداث تمثل نقطة تحول كارثية، ليس فقط في تاريخ حماة السياسي، بل في تطورها العمراني أيضًا. حجم الدمار، خاصة في الأحياء التاريخية، لا يشير فقط إلى الأضرار المادية، بل إلى محو متعمد أو ناتج عن الصراع لأجزاء من التراث المعماري للمدينة. كان هذا الدمار مرتبطًا بشكل وثيق بالهوية السياسية لتلك الأحياء، مما يربط العنف السياسي بشكل مباشر بالتغيير المتعمد للنسيج العمراني، ويهدف إلى تفكيك البنى المجتمعية وربما محو الذاكرة الجماعية المتجسدة في البيئة المبنية.
في بداية الثورة السورية عام 2011 وما بعدها، كانت حماة مركزًا رئيسيًا للمظاهرات السلمية، قبل أن تواجه حصارًا وقصفًا عسكريًا شديدًا، مما أدى إلى معاناة كبيرة لسكانها.
خصائص العمارة السكنية الحديثة
شهد المسكن التقليدي في حماة تحولًا نحو المسكن الحديث، متأثرًا بشكل كبير بالعمارة الغربية. أدى هذا التحول إلى إغفال بعض الاحتياجات الإنسانية والمعايير البيئية التي كانت متأصلة في العمارة التقليدية. ومع ذلك، لا يزال هناك تنوع في الأنماط السكنية بين المناطق السورية، مع نماذج تطورت محليًا لتلبية حاجات السكان المادية والرمزية ضمن شروط بيئية ومجتمعية خاصة.
على الرغم من التغيرات، لا يزال مفهوم “دمج خصوصية الحياة العائلية مع كرم الضيافة” حاضرًا في تصميم الفضاءات المنزلية، حيث تُخصص أجزاء من المنزل لاستقبال الضيوف، مما يعكس تقليدًا سوريًا عريقًا. تتميز المباني الحديثة باستخدام مبدأ التناظر والنظام الواضح في الواجهات. كما يُلاحظ استخدام المادة الإسمنتية لتغطية الجدران الحجرية، واستخدام المنجور المعدني لحماية النوافذ، والأبجورات الخشبية. بعض المباني الحديثة تحتوي على “فراغات شبه عامة” مع مسطحات خضراء في الموقع تساعد على تنقية الهواء وتبريد الطقس، مما يعكس اهتمامًا متزايدًا بالجانب البيئي. هناك دعوة متزايدة للاستفادة من خصائص العمارة التقليدية المستدامة ودمجها في المسكن المعاصر لإعادة التوازن.
التخطيط العمراني الحديث
أدى ازدياد نمو السكان والتجارة في حماة إلى توسع المدينة نحو الجنوب والغرب، مما غير حدودها التقليدية. بعد أحداث 1982، تم وضع مخطط تفصيلي تنظيمي (بموجب المرسوم 5 لعام 1982 وتعديلاته بالقانون 41 لعام 2002) يحدد تفاصيل شبكة الطرق والفراغات العامة والتفاصيل العمرانية للأراضي. هذا يشير إلى إعادة بناء موجهة من قبل الدولة. إن إعادة الإعمار بعد عام 1982 أعطت الأولوية لإعادة البناء السريع والتحكم المركزي على حساب الحفاظ على الطابع التاريخي، خاصة بالنظر إلى السياق السياسي للمجـ.ـزرة.
تطبيق المراسيم الجديدة للتخطيط العمراني يشير إلى نهج حكومي من أعلى إلى أسفل في التنمية الحضرية، مما قد يكون قد أدى إلى تآكل الأنماط العمرانية التقليدية والأنماط المعمارية لصالح تصاميم حديثة وموحدة، وربما أسهل في التحكم. هذا يعني أن التخطيط العمراني الحديث في حماة ليس مجرد تطور عضوي، بل هو نتيجة مباشرة للتحكم السياسي وأداة لإعادة تشكيل المشهد المادي والاجتماعي للمدينة.
تشير المصادر إلى أن المدن السورية، بما في ذلك حماة، بدأت تظهر فيها التخطيطات الشطرنجية مع بدايات العصر الهلنستي، واستمر هذا النمط في بعض الأجزاء من المدن القديمة. وقد انبثق مشهد حضري مركب في القرن العشرين يعكس صراع الهوية المعمارية بين الاستمرارية والانقطاع، حيث تتجاور الأنماط التقليدية مع الحديثة.
مواد البناء الحديثة المستخدمة
شهدت حماة تحولًا واضحًا في مواد البناء المستخدمة. تُنتج شركة إسمنت حماة الإسمنت ومواد البناء الحديثة مثل البلوك والزرادة والبحص والنحاتة الناعمة. يُلاحظ استخدام المادة الإسمنتية لتغطية الجدران الحجرية في بعض المباني الحديثة. هذا التحول من المواد التقليدية المحلية (مثل البازلت والطين وأنواع معينة من الخشب للنواعير ) إلى المواد الصناعية الحديثة مثل الإسمنت والكتل الخرسانية يُشير إلى تحول اقتصادي وتكنولوجي أوسع. هذا الانتقال نحو مواد الإنتاج الضخم والموحدة يؤثر ليس فقط على الجودة الجمالية والإنشائية للمباني الجديدة، بل أيضًا على أدائها الحراري وهويتها الثقافية. إنه نتيجة مباشرة للتصنيع وتغير ممارسات البناء والتوجه العالمي نحو “الحداثة”، وغالبًا ما يكون مدفوعًا باعتبارات الكفاءة من حيث التكلفة وسرعة البناء، ربما على حساب الحكمة المعمارية التقليدية.
لا يزال الخشب يُستخدم في الصناعات الخشبية، الأثاث المنزلي، ونجارة النواعير، مما يدل على استمرارية بعض الحرف التقليدية.
تأثير التغيرات الاجتماعية والاقتصادية على العمارة الحديثة
ارتبطت العمارة السكنية على مر العصور بالعديد من التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما أدى إلى تغير تصميم المسكن من حيث الشكل والوظائف تباعًا. يُلاحظ أن العمارة الحديثة قد تتخلى عن “فقه العمارة العربية الإسلامية” في بناء الفراغ الذي يحوي ذات الإنسان وخليته الاجتماعية الخاصة (الأسرة)، مما قد يؤدي إلى تفكيك الحال الاجتماعية.
إن “صراع الهوية المعمارية بين الاستمرارية والانقطاع” هو محور السرد المعماري الحديث في حماة. يشير التحول الملحوظ بعيدًا عن مبادئ “العمارة العربية الإسلامية” التقليدية إلى أن التحديث، المتأثر بشدة بالأنماط الغربية ، أدى إلى انفصال كبير بين الشكل المعماري والقيم الاجتماعية المتجذرة بعمق، مثل خصوصية الأسرة، والعيش العائلي الممتد، وكرم الضيافة. هذا له تبعات اجتماعية عميقة: فالعمارة لا تتعلق فقط بالجماليات أو الوظيفة، بل تتعلق أيضًا بتجسيد وتعزيز القيم الثقافية والبنى الاجتماعية. عندما لا تنعكس هذه القيم أو تُدعم من خلال البيئة المبنية، يمكن أن يسهم ذلك في شعور بالنزوح الثقافي، أو تآكل الروابط الاجتماعية التقليدية، أو فقدان الهوية داخل المجتمع.
تُعتبر البيوت الريفية والحضرية بمثابة “بيوت الذاكرة” التي تعكس الأجيال المتعاقبة وأسلوب حياتهم في توافق مع البيئة، وتشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث المعماري السوري الغني.
الفصل الرابع: دراسة مقارنة: التطور المعماري وانعكاساته السياسية والاجتماعية
مقارنة تحليلية بين الأنماط المعمارية الأيوبية، العثمانية، والحديثة
تُقدم العمارة في حماة عبر العصور سجلًا ماديًا للتحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها المدينة. يمكن مقارنة الأنماط المعمارية الأيوبية، والعثمانية، والحديثة من عدة جوانب:
- الخصائص الجمالية والوظيفية:
- الأيوبية: تميزت بالتقشف، القوة، المتانة، دقة النسب، وضخامة المنشآت، مع تركيز وظيفي على الدفاع والتحصين. اعتمدت الشكل المكعب البسيط مع فتحات قليلة وصغيرة لضمان الخصوصية، وصحن داخلي للإضاءة والتوزيع الحراري.
- العثمانية: اتسمت بالفخامة والبذخ، مع زخارف عجمية متقنة ، وقباب عظيمة تضفي إحساسًا بالعظمة. تميزت بالأفنية المتعددة والتقسيم الوظيفي للمساحات (السلاملك والحرملك) لتلبية الاحتياجات الاجتماعية المعقدة.
- الحديثة: تظهر تباينًا كبيرًا وتأثرًا بالأنماط الغربية ، مع استخدام مبدأ التناظر في الواجهات. غالبًا ما تفتقر إلى الهوية المحلية المميزة وتتجه نحو كتل خرسانية أكثر بساطة أو تعقيدًا حسب الطراز الحديث.
- مواد البناء والتقنيات الإنشائية:
- الأيوبية: اعتمدت بشكل أساسي على الحجر (الكلسي والبازلتي) في البناء ، واستخدمت الخشب في التفاصيل. كان النظام الإنشائي يعتمد على الجدران الحاملة.
- العثمانية: استمر استخدام الحجر الكلسي والبازلتي بنمط الأبلق ، وتوسع استخدام الخشب في الأعمال الزخرفية (العجمية) ، بالإضافة إلى الرخام في التفاصيل الفاخرة.
- الحديثة: شهدت تحولًا جذريًا نحو استخدام الإسمنت، البلوك، والركام بأنواعه. كما ظهر استخدام المنجور المعدني لحماية النوافذ والأبجورات الخشبية.
- مفاهيم الخصوصية والفخامة:
- الخصوصية: في العمارة الأيوبية، تحققت من خلال الفتحات القليلة والصغيرة في الواجهات الخارجية والصحن الداخلي. في العمارة العثمانية، تعززت بشكل كبير من خلال الأفنية الداخلية المتعددة، التقسيم الواضح بين السلاملك والحرملك، المداخل غير المباشرة، المشربيات، وحتى النوافير التي توفر خصوصية صوتية. أما في العمارة الحديثة، فقد تكون أقل تركيزًا على مفهوم الخصوصية التقليدي، مع ظهور فراغات شبه عامة وتأثر بالتصميم الغربي الذي قد يقلل من الحواجز البصرية.
- الفخامة: في العمارة الأيوبية، تجلت في ضخامة المنشآت العسكرية والدينية ، وليس بالزخرفة المفرطة، مما يعكس أولويات عصر الحرب. في العمارة العثمانية، تجسدت بوضوح في القصور الكبرى مثل قصر العظم، مع زخارفه العجمية المتقنة وقاعاته الفخمة، مما يعكس الثراء والنفوذ. أما في العمارة الحديثة، فقد تكون الفخامة موجودة في بعض المباني ولكنها تتبع معايير جمالية مختلفة، غالبًا ما تكون أقل ارتباطًا بالهوية المحلية التقليدية.
تحليل عميق لكيفية تجسيد العمارة للتحولات السياسية والاجتماعية
إن التطور المعماري في حماة يروي قصة تحولات عميقة في طبيعة السلطة والتركيب الاجتماعي. في العصر الأيوبي، كانت السلطة تُعبر عنها بشكل أساسي من خلال التحصينات القوية والمنشآت الدينية الأساسية ، مما يعكس دولة تركز على الدفاع العسكري والتماسك المجتمعي في ظل الحروب المستمرة. هذا التركيز على المتانة والوظيفة الدفاعية أدى إلى ندرة القصور الفخمة، حيث كانت أولوية البقاء والتحصين تفوق البذخ.
أما خلال العصر العثماني، فبينما استمرت الأشغال العامة، أصبح بناء القصور الخاصة الفخمة مثل قصر العظم “رمزًا للثروة والنفوذ” للعائلات النخبوية مثل آل العظم. هذا يشير إلى تحول نحو إظهار أرستقراطي للسلطة، حيث أتاح الاستقرار النسبي ونفوذ العائلات المحلية القوية ازدهارًا في بناء القصور التي عبرت عن هذه القوة. العمارة في هذه الفترة أصبحت أداة قوية للتعبير عن المكانة الاجتماعية والسياسية، حيث كانت القصور الضخمة بجانب البيوت البسيطة تبرز التفاوت الطبقي الواضح.
في العصر الحديث، خاصة بعد عام 1963، أدت مصادرة ممتلكات النخبة التقليدية وما تلاها من إعادة إعمار وتخطيط عمراني تقوده الدولة بعد أحداث 1982، إلى إظهار أن السلطة أصبحت تتركز في يد حكومة مركزية تملي الشكل والتطور العمراني. هذا التحول في رعاية العمارة والتحكم العمراني يكشف كيف تغيرت طبيعة السلطة السياسية والاجتماعية في حماة عبر هذه الفترات التاريخية. فمن القوة العسكرية والدفاع المجتمعي، إلى البذخ الأرستقراطي، ثم إلى التحكم المركزي للدولة في التنمية الحضرية، تعكس الأشكال المعمارية السائدة والجهات التي كلفت ببنائها بوضوح من كان يمتلك السلطة وكيف اختاروا إضفاء الشرعية عليها وإظهارها.
كما أثرت الأنظمة الحاكمة بشكل مباشر على التطور المعماري. فالحكام الأيوبيون ركزوا على بناء التحصينات والمنشآت الدينية. بينما مثلت عائلة العظم نموذجًا للسلطة المحلية التي ترجمت نفوذها إلى عمارة فخمة، تعكس مكانتها الاجتماعية والسياسية ، مع تأثر بالنموذج الإمبراطوري العثماني الوافد. أما في العصر الحديث، فقد أدى صعود حزب البعث إلى تغيير نمط الرعاية المعمارية، كما أثرت سياسات التأميم والإصلاح الزراعي على الطبقات الاجتماعية القادرة على الاستثمار في العمارة، مما أدى إلى تغيير في أنماط الملكية والتطوير.
شهدت الهوية المعمارية في حماة تفاعلًا معقدًا بين الاستمرارية والانقطاع عبر العصور:
- الاستمرارية:
- ظل مفهوم الفناء الداخلي والخصوصية سمة حاضرة في العمارة السكنية التقليدية لقرون طويلة، من العصر الأيوبي مرورًا بالعثماني وحتى بعض التعبيرات الحديثة.
- استمر استخدام مواد محلية مثل الحجر (الكلسي والبازلتي) في البناء، وإن اختلفت أنماط توظيفها.
- تظل النواعير رمزًا مستمرًا للمدينة، يربط حاضرها بماضيها العريق، ويعكس استمرارية التكيف مع البيئة الجغرافية.
- الانقطاع:
- حدث انقطاع واضح في الأنماط المعمارية، من عمارة دفاعية وظيفية (أيوبية) إلى عمارة فخمة وبذخية (عثمانية) ثم إلى عمارة حديثة متأثرة بالغرب.
- يمثل الدمار الهائل لأحياء تاريخية في عام 1982 انقطاعًا ماديًا وثقافيًا كبيرًا في النسيج العمراني للمدينة، حيث أُعيد بناء مناطق واسعة وفق مخططات جديدة.
- يمثل استخدام مواد بناء صناعية حديثة مثل الإسمنت والكتل الخرسانية انقطاعًا في التقنيات والمواد التقليدية، مما أثر على الجمالية والأداء البيئي للمباني.
- إن “صراع الهوية المعمارية بين الاستمرارية والانقطاع” في العمارة الحديثة يعكس انفصالًا بين الشكل المعماري والقيم الاجتماعية المتجذرة، حيث أدت الحداثة المتأثرة بالأنماط الغربية إلى تحديات في الحفاظ على الهوية الثقافية الأصيلة للمجتمع الحموي.
الخلاصة
لقد كشفت دراسة تطور العمارة في حماة عبر العصور عن كونها مرآة تعكس بوضوح التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المدينة. فمن العمارة الأيوبية التي اتسمت بالقوة والتقشف والتركيز على الدفاع، والتي جسدت واقع الصراع المستمر وضرورة التحصين، إلى العمارة العثمانية التي تميزت بالفخامة والبذخ، خاصة في قصور العائلات الحاكمة كآل العظم، والتي عكست فترات من الاستقرار النسبي وبروز النخب المحلية ونفوذها.
في العصر الحديث، شهدت حماة تحولًا جذريًا مع تأثيرات الانتداب الفرنسي ثم الحكم الوطني، وبلغت ذروتها في أحداث 1982 التي أدت إلى دمار واسع وتغيير في النسيج العمراني. لقد أثرت هذه الأحداث بشكل مباشر على التخطيط العمراني، حيث أصبحت الدولة تفرض رؤيتها على إعادة الإعمار، مما أدى إلى تراجع الأنماط التقليدية لصالح أنماط أكثر حداثة وموحدة. كما أن التحول في مواد البناء من الحجر والخشب المحليين إلى الإسمنت والمواد الصناعية يعكس تحولات اقتصادية وتكنولوجية عميقة.
إن النسيج العمراني لحماة اليوم هو نتيجة لتراكم هذه الطبقات التاريخية، حيث تتجاور بقايا العمارة الأيوبية والعثمانية مع المباني الحديثة، مما يخلق مشهدًا حضريًا مركبًا يعكس صراع الهوية المعمارية بين الاستمرارية والانقطاع. ورغم التحديات التي تواجه الحفاظ على التراث، فإن العمارة في حماة تظل شاهدًا حيًا على مرونة المدينة وقدرتها على التكيف مع التغيرات الجذرية، مع الحفاظ على بعض السمات الأساسية كالفناء الداخلي والنواعير التي تربطها بجذورها التاريخية العميقة.