العصر الحديث

حماة في مطلع القرن العشرين: ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية تحت الحكم العثماني المتأخر

حماة في مطلع القرن العشرين: ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية تحت الحكم العثماني المتأخر

مقدمة: حماة في قلب بلاد الشام العثمانية

تُعد مدينة حماة، التي تُلقب بـ”أم النواعير”، مدينة سورية عتيقة ذات أهمية تاريخية وجغرافية عميقة. يقع قلب المدينة على نهر العاصي، الذي يُشكل شريان الحياة الرئيسي للمجتمعات التي استوطنت حوله عبر التاريخ، مؤثراً بشكل مباشر على تخطيطها ونموها الحضري. ينقسم النهر حماة إلى قسمين رئيسيين: القسم الشرقي الذي يُعرف بـ”الحاضر” والقسم الجنوبي الذي يُعرف بـ”السوق”، مما يعكس التمايز الوظيفي والجغرافي للمدينة. لم تكن حماة مجرد مركز حضري، بل كانت محطة توقف حيوية على الطريق الرئيسي الذي يربط شمال سوريا بجنوبها، مما منحها دوراً محورياً كمركز لمنطقتها الاقتصادية المحلية.

هذا الموقع الاستراتيجي لم يقتصر على الأهمية التجارية فحسب، بل امتد ليشمل الأهمية العسكرية عبر العصور، كما تُظهر السجلات التاريخية للحملات الفرعونية والبابلية التي سعت لتأمين طرق التجارة عبرها. بالإضافة إلى ذلك، اشتهرت حماة بمدارسها العلمية وآثارها التاريخية، مما يؤكد على عمقها الثقافي والحضاري الذي امتد لقرون.  

شهدت الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فترة تحولات عميقة، عُرفت بإصلاحات “التنظيمات” الشاملة. هدفت هذه الإصلاحات إلى تحديث هياكل الدولة وتعزيز السيطرة المركزية في مواجهة ضعفها المتزايد داخلياً وخارجياً. تجلت مظاهر هذا الضعف في الميدان العسكري، حيث فقد الجيش العثماني مزاياه التقليدية وتحول في بعض الأحيان إلى مصدر للفساد والفوضى، وفي الميدان الإداري الذي شهد تدهوراً عاماً أفسح المجال لتزايد حركات التمرد في الولايات. تأثرت الولايات العربية، بما فيها بلاد الشام، بهذه الإصلاحات والتحديات، مما خلق ديناميكيات معقدة بين السلطة المركزية والقوى المحلية التي سعت للحفاظ على نفوذها ومكانتها.  

يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل احترافي ومعمق لملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مدينة حماة خلال مطلع القرن العشرين، وهي فترة حاسمة شهدت نهاية الحكم العثماني. سيتناول المقال البنية الاجتماعية للمدينة، ودور العائلات الكبرى، والأنشطة الاقتصادية التقليدية كالزراعة والتجارة، وأثر “سنجق حماة” الإداري في تلك الفترة، مع التركيز على التفاعلات بين التغيرات المركزية والاستمرارية المحلية التي ميزت هذه الحقبة.

البنية الإدارية: سنجق حماة في أواخر العهد العثماني

الموقع والحدود الإدارية

كان سنجق حماة كياناً إدارياً عثمانياً مهماً، يقع في أقصى شمال ولاية سوريا. امتدت حدوده بشكل استراتيجي، حيث كانت تحدها ولاية حلب شمالاً وشرقاً، وسنجق دمشق جنوباً، بينما كانت تحدها سنجقا اللاذقية وطرابلس الشام ضمن ولاية بيروت غرباً. هذا الموقع جعله نقطة وصل حيوية بين مراكز إقليمية كبرى في بلاد الشام. تاريخياً، خضع سنجق حماة لإيالات وولايات مختلفة ضمن الهيكل الإداري العثماني، حيث كان جزءاً من إيالة حلب في الفترة من 1549 إلى 1579، ثم إيالة طرابلس من 1579 إلى 1864، قبل أن يصبح جزءاً من ولاية سوريا في إطار إصلاحات التنظيمات العثمانية التي بدأت في عام 1864 واستمرت حتى عام 1918. هذه التغيرات الإدارية تعكس محاولات الدولة العثمانية لإعادة تنظيم ولاياتها لتعزيز السيطرة وربما الكفاءة.  

التقسيمات الفرعية والسكان

في عام 1914، وهو عام حاسم يسبق انهيار الدولة العثمانية، كان سنجق حماة يضم مركز المدينة بالإضافة إلى نواحي حمص وسلمية والعمرانية. هذا التوسع الإداري يشير إلى نطاق نفوذه الواسع وامتداده ليشمل مناطق زراعية وحضرية مهمة. بلغ عدد سكان السنجق في عام 1914 حوالي 200,410 نسمة. هذا العدد يجعله ثاني أكبر سنجق من حيث السكان في ولاية سوريا بعد سنجق دمشق، مما يؤكد على أهميته الديموغرافية والاقتصادية كمركز إقليمي حيوي للدولة العثمانية.  

إن احتواء سنجق حماة على نواحي رئيسية مثل حمص وسلمية والعمرانية، بالإضافة إلى العدد الكبير لسكانها الذي بلغ 200,410 نسمة في عام 1914، مما جعله ثاني أكبر سنجق سكاناً في ولاية سوريا بعد سنجق دمشق، يشير بوضوح إلى أن سنجق حماة لم يكن مجرد وحدة إدارية ثانوية، بل كان مركزاً ديموغرافياً واقتصادياً كبيراً. حجم السكان الكبير ونطاق الأراضي التي يشملها السنجق، بما في ذلك مدن رئيسية أخرى، يؤكد على دوره المحوري في الهيكل الإداري العثماني المتأخر في بلاد الشام.

هذا يعني أن حماة كانت نقطة ارتكاز حيوية لجمع الضرائب، وتوفير الموارد البشرية، والتحكم في الطرق التجارية، مما يعكس أهميتها الاستراتيجية للدولة العثمانية في الحفاظ على سيطرتها واستقرارها في المنطقة. تبرز هذه الأهمية الإقليمية لسنجق حماة مدى اعتماد السلطة المركزية على هذه الوحدات الإدارية الكبرى في إدارة شؤون الإمبراطورية المترامية الأطراف، وتؤكد على أن حماة كانت أكثر من مجرد مدينة؛ كانت مركزاً إقليمياً له ثقله الخاص.

تأثير إصلاحات التنظيمات العثمانية على الإدارة المحلية

كان السنجق يمثل التقسيم الإداري الثاني في الدولة العثمانية، ويُعرف أيضاً بـ”لواء”. كانت هذه الوحدات تُدار من قبل “متصرف” يُعين بمرسوم إمبراطوري ويمثل الوالي، أو “سنجق بيك”. خلال إصلاحات التنظيمات في القرن التاسع عشر، تم استبدال نظام الإيالات بالولايات، واستمرت السناجق كتقسيمات إدارية ثانوية. شهدت هذه الإصلاحات تحولاً في المهام الإدارية على مستوى الأقضية (kazas) التي كانت تُشكل السنجق، حيث انتقلت المسؤوليات الإدارية من القضاة (kadi) إلى القائمقامين وأمناء الصندوق، بينما اقتصر دور القضاة على الوظائف القضائية.  

في حماة، وبعد صدور قانون الولاية العثماني في عام 1864، تم تشكيل إدارات جديدة، أبرزها المجلس الاستشاري لحماة. ومع ذلك، تشير المصادر إلى أن “الإفادة الكاملة من هذه الإصلاحات كانت ناقصة، فقد سيطرت عائلات معينة على أغلب الإدارات”. على سبيل المثال، كان أربعة من أصل عشرة أفراد في المجلس الاستشاري من الأشراف، مما يعكس استمرارية نفوذ النخب التقليدية.

هذا التباين بين الأهداف المركزية للإصلاح والواقع المحلي يكشف عن تحدٍ جوهري واجهته الدولة العثمانية في تطبيق إصلاحاتها. فبينما كانت السلطة المركزية تسعى لفرض نموذج إداري أكثر حداثة ومركزية، كانت النخب المحلية القوية في حماة قادرة على التكيف مع هذه التغييرات واستيعابها ضمن هياكل نفوذها القائمة. لم تؤدِ الإصلاحات إلى إزاحة هذه العائلات، بل ربما وفرت لها قنوات جديدة لترسيخ سيطرتها تحت غطاء الشرعية الإدارية الجديدة.

هذا يدل على أن الحكم العثماني المتأخر في حماة كان يتميز بنظام هجين، حيث تداخلت الأطر الإدارية الحديثة مع البنى الاجتماعية التقليدية، مما أدى إلى استمرارية النفوذ المحلي القوي الذي كان قادراً على تكييف الإصلاحات لخدمة مصالحه، بدلاً من أن تُحدث ثورة شاملة في توزيع السلطة.  

ملامح الحياة الاجتماعية في حماة

البنية الطبقية للمدينة ودور الأعيان

تميزت حماة ببنية اجتماعية هرمية معقدة، حيث كانت الشبكات الاجتماعية المتشابكة تربط سكان المدينة بالفلاحين والبدو الرعاة في ريف حماة. هذا يشير إلى علاقة تكافلية بين الحضر والريف، حيث كان كل منهما يعتمد على الآخر لتلبية احتياجاته. بحلول مطلع القرن العشرين، كانت قلة من العائلات النخبوية والبارزة قد سيطرت بشكل كبير على الحياة السياسية والاقتصادية في حماة وقراها التابعة.  

كان الأعيان، وهم الطبقة العليا في المجتمع، يستمدون نفوذهم من مصادر متعددة: المراكز الدينية الموروثة، كالإفتاء والصوفية، أو السيطرة على جباية الضرائب، أو شغل الوظائف الحكومية (الأفندية)، أو الانحدار من الأشراف. عمل هؤلاء الأعيان كوسطاء أساسيين بين الحكم العثماني والشعب، حيث كانوا مسؤولين عن جباية الضرائب وفي الوقت نفسه تهدئة الاحتجاجات وتلطيفها. هذا الدور الوسيط للأعيان لم يكن مجرد وظيفة إدارية، بل كان آلية حاسمة للحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم.

من خلال جمع الضرائب، ضمنوا تدفق الإيرادات للدولة، ومن خلال تهدئة الاحتجاجات، حافظوا على الاستقرار الذي يخدم مصالحهم ومصالح السلطة المركزية. هذا يشير إلى أنهم لم يكونوا مجرد مستفيدين من النظام، بل كانوا جزءاً لا يتجزأ من آليات استمراريته ومرونته في مواجهة الضغوط. هذا يدل على أن الأعيان في حماة كانوا بمثابة صمام الأمان للنظام العثماني المتأخر، حيث كانوا يمتلكون القدرة على التكيف مع التغيرات والاضطرابات، مما سمح باستمرارية البنى الاجتماعية والاقتصادية التقليدية على الرغم من التحديات التي واجهتها الإمبراطورية في أواخر عهدها.  

دور العائلات الكبرى ونفوذها

كانت العائلات الكبرى تلعب دوراً محورياً في تشكيل المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في حماة خلال مطلع القرن العشرين. من أبرز هذه العائلات:

آل العظم: كانت الأسرة العظمية من أبرز العائلات وأكثرها نفوذاً في سوريا منذ القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين. اعتمد العثمانيون على هذه العائلة الحموية لحكم المدينة في القرن الثامن عشر. من أشهر أبنائها أسعد باشا العظم، الذي شغل منصب والي دمشق (1743-1757)، والذي بنى قصر العظم في حماة عام 1742 وقصر العظم في دمشق عام 1749. استمر نفوذ العائلة حتى مطلع القرن العشرين وما بعده، حيث شغل أفرادها مناصب رفيعة في الدولة العثمانية ثم في الحكومات السورية اللاحقة.

من هؤلاء محمد فوزي باشا العظم، الذي كان ناظراً (وزيراً) في الدولة العثمانية ورئيساً للمؤتمر السوري الأول (البرلمان السوري) عام 1919. كما برز حقي العظم الذي أصبح رئيساً للحكومة السورية عام 1932، وخالد العظم، رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ سوريا الذي شكل خمس حكومات وكان أحد أقطاب السياسة السورية في خمسينات القرن العشرين. كان خالد العظم معروفاً بثقله الاقتصادي، حيث كانت مجرد تسميته رئيساً للوزراء كافية لجلب الاستثمارات واستقرار سعر الصرف وارتفاع أسهم الشركات الصناعية في سوق البورصة السورية.  

العائلات الكردية: كان للكرد وجود متأصل ومهم في حماة عبر العديد من الأسر الحاكمة، وخاصة الأسرة الأيوبية، بالإضافة إلى عوائل عريقة لا تزال موجودة. من العائلات الكردية البارزة في حماة خلال العهد العثماني المتأخر: آل المراد، آل الرشواني، آل الأمير (من نسل أيوبي)، آل القيطاز، آل الكوجان، آل البوشي (من نسل أيوبي)، آل الملي، آل الخربوطلي، آل مرعب، بالإضافة إلى عشائر مثل شيخان وساجلي. بعض هذه العائلات قدمت إلى حماة من مناطق كردستان خلال الحكم العثماني، وبعضها كان له دور في الحكم المحلي، مثل إسماعيل باشا الملي الذي كان والياً على حماة. ساهم الكرد أيضاً في بناء وترميم سور وقلعة حماة خلال الإمبراطورية الأيوبية، مما يؤكد عمق جذورهم في تاريخ المدينة.  

إن تداخل السلطة السياسية والاقتصادية والعرقية في تشكيل النخبة الحاكمة في حماة، كما يتضح من نفوذ آل العظم والعائلات الكردية، يوضح أن النخبة الحاكمة في حماة لم تكن مجرد طبقة سياسية أو اقتصادية، بل كانت شبكة معقدة تتداخل فيها الأصول العرقية مع الثروة والوظائف الإدارية والدينية. هذا التداخل عزز من قوتهم الشاملة وجعلهم الفاعلين الرئيسيين في المدينة، القادرين على توجيه مسارها الاجتماعي والاقتصادي. هذا يشير إلى أن الهياكل الاجتماعية في حماة كانت تتميز بتعددية في مصادر النفوذ، حيث لم تكن السلطة حكراً على مجموعة واحدة، بل كانت موزعة بين عائلات مختلفة الأصول، ولكنها جميعاً تتقاسم مصلحة الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها، مما أضفى على المشهد الاجتماعي توازناً معقداً من القوى.

التركيبة الديموغرافية والطائفية

بلغ عدد سكان سنجق حماة 200,410 نسمة في عام 1914 ، مما يعكس حجم التجمع السكاني الذي كانت المدينة مركزه. في مطلع القرن العشرين، كانت حماة، كغيرها من مدن بلاد الشام، تشكل “جزر أقليات في بحر إسلامي سني”. هذا يعني أن الأغلبية الساحقة من السكان كانت من المسلمين السنة، مع وجود أقليات مسيحية ضئيلة.

هذه التركيبة الديموغرافية تعكس الطابع العام للمدن السورية في تلك الفترة، حيث كانت الأغلبية السنية تشكل النسيج الاجتماعي الأساسي، مع وجود تنوع طائفي محدود ضمن المدينة نفسها. (تجدر الإشارة إلى أن البيانات الحديثة لعام 2011 تشير إلى تركيبة سكانية لمحافظة حماة تتضمن 67% سنة، 19% علويين، 12% إسماعيليين، 7% مسيحيين، 1% شيعة. هذه الأرقام تعكس تطورات ديموغرافية لاحقة وتغيرات كبيرة في التركيبة السكانية للمحافظة ككل، لكنها توفر سياقاً عاماً للطابع السني التاريخي للمدينة في الفترة العثمانية المتأخرة).  

الأنشطة الاقتصادية التقليدية

أ. الزراعة

الطابع الزراعي للاقتصاد الحموي وأنظمة ملكية الأراضي: كان الاقتصاد العثماني بشكل عام، وبالتالي اقتصاد حماة، زراعياً بامتياز، يتميز بوفرة الأراضي ولكن ندرة الأيدي العاملة ورأس المال. كانت غالبية السكان تعتمد على حيازات عائلية صغيرة كمصدر رئيسي للرزق، وكانت هذه الحيازات تساهم بشكل كبير في إيرادات الضرائب للإمبراطورية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الرسوم الجمركية على الصادرات. كانت الدولة العثمانية هي المالك الأكبر للأرض، ووظيفتها الأساسية لم تتجاوز جباية الضرائب. أما الملاك المحليون، وهم الأعيان، فكانوا يعملون كوسطاء للحاكم، يلتزمون بريع الأرض ويجبون الضرائب.  

إن نظام ملكية الأراضي في حماة، كما في معظم أنحاء الإمبراطورية العثمانية المتأخرة، لم يكن يهدف في المقام الأول إلى تعظيم الإنتاجية الزراعية بقدر ما كان يركز على استخلاص الإيرادات. دور الأعيان في هذا النظام لم يكن مجرد إدارياً، بل كان مالياً واجتماعياً، حيث سمحت لهم هذه الوظيفة بتعزيز ثرواتهم ونفوذهم المحلي بالتوازي مع خدمة مصالح الدولة. هذا يوضح كيف أن الهيكل الاقتصادي كان متداخلاً بعمق مع البنية الاجتماعية والسياسية، مما يعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين السلطة المركزية والنخب المحلية، حيث كانت الدولة تمنح الأعيان نفوذاً على الأرض مقابل ضمان تدفق الإيرادات، مما يعزز من مكانة الأعيان الاجتماعية والاقتصادية كجزء لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الحاكم.

أهمية نهر العاصي والنواعير في دعم الزراعة: يُعد نهر العاصي “شريان الحياة” للمجتمعات التي استوطنت حوله، وله دور حيوي في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك الزراعة والصناعة والحياة الاجتماعية. يُسمى النهر أيضاً بـ”العاصي” لاستصعاب أخذ مائه بغير النواعير. هذه النواعير، التي تُعرف بها حماة وتُلقب المدينة بـ”أم النواعير” بسببها، كانت ضرورية لرفع المياه من النهر وتوزيعها على مختلف أنحاء المدينة وريفها. تدور النواعير داخل البلد وخارجها، وتسقي البيوت والبساتين والحمامات والمساجد، مما يدل على دورها الشامل في دعم الحياة الحضرية والزراعية. تتركز التنمية الصناعية في المناطق التي تتوفر فيها مياه نهر العاصي بيسر، بما في ذلك حماة وحمص.  

إن النواعير في حماة لا تقتصر على كونها مجرد أدوات ري، بل هي حل هندسي تقليدي مبتكر ومتكيف تماماً مع التحديات الجغرافية لنهر العاصي. إن العدد الكبير من النواعير المذكورة، مثل ناعورة الخضر والمحمدية والدوالك وغيرها، يدل على استثمار مجتمعي كبير في هذه البنية التحتية التقليدية، مما يؤكد على اعتماد المدينة العميق على التكنولوجيا المحلية لضمان استدامتها الزراعية والحضرية. هذه التقنية سمحت لحماة بالازدهار كمركز زراعي وحضري رغم طبيعة النهر التي تجعل استغلاله صعباً. تمثل النواعير دليلاً على قدرة المجتمع الحموي على التكيف والابتكار في استغلال موارده الطبيعية، مما جعلها ركيزة أساسية للحياة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة.

المحاصيل الرئيسية وتربية الحيوانات: كانت حماة تتميز بتنوعها الزراعي. من أهم المحاصيل الزراعية في المنطقة: القمح، الذي يعتمد إنتاجه على الأمطار، والشعير الذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية. أما المحاصيل المروية ذات القيمة الاقتصادية، فكانت تشمل القطن، الشوندر السكري، البصل، التبغ، بالإضافة إلى البطاطا، الذرة، والخضروات المتنوعة. شهدت زراعة الأشجار المثمرة نمواً وتوسعاً، خاصة الزيتون والفستق الحلبي، وكذلك التفاح والإجاص والخوخ والدراق.  

كانت تربية الحيوانات رديفاً مهماً للزراعة، ومن أهمها الأغنام ثم الماعز والدواجن والنحل. كانت منتجات الألبان واللحوم والسمن تشكل معظم معيشة الحمويين، مما يشير إلى الأهمية الاقتصادية والغذائية لهذا القطاع. ومع ذلك، كانت الثروة الحيوانية تتناقص بشكل ملحوظ إذا شحت الأمطار، مما يشير إلى هشاشة هذا القطاع أمام التقلبات المناخية. هذا يوضح أن الاقتصاد الحموي كان يتمتع بتنوع كبير في منتجاته الزراعية والحيوانية، مما يوفر مصادر دخل متعددة للسكان. ومع ذلك، فإن الاعتماد الكبير على الأمطار، خاصة بالنسبة للمحاصيل البعلية والثروة الحيوانية، جعل الاقتصاد عرضة للتقلبات المناخية. هذا التنوع يوفر مرونة نسبية، لكن الهشاشة أمام الجفاف كانت تحدياً مستمراً يؤثر على سبل عيش الغالبية، مما يؤكد على أهمية إدارة المياه وتقنيات الري التقليدية في التخفيف من هذه المخاطر.  

تأثير التطورات الاقتصادية العثمانية على الزراعة المحلية: شهدت الزراعة في الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك المناطق العربية، زيادة في الإنتاج خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. جاءت هذه الزيادة نتيجة لمشاريع الري، وتطبيق الزراعة المكثفة، ودمج الأدوات الزراعية الحديثة مثل المحاريث والحصادات التي انتشرت بعشرات الآلاف بحلول عام 1900 في الأراضي البلقانية والأناضولية والعربية.

جاءت معظم الزيادات في الإنتاج من استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي، وزيادة وقت العمل، واستخدام الأراضي البور والرعي للمحاصيل من خلال نظام المزارعة (sharecropping). ساهمت سياسة الدولة التي تطلب دفع جزء أكبر من الضرائب نقداً، وزيادة الطلب على السلع الاستهلاكية، في زيادة الإنتاج الزراعي. كما أن ملايين اللاجئين الذين استقروا في الأراضي العثمانية جلبوا مساحات شاسعة من الأراضي غير المزروعة إلى الإنتاج، حيث وزعت عليهم الوكالات الحكومية حيازات صغيرة من الأراضي.  

هذا يشير إلى أن حماة، كجزء من الإمبراطورية، كانت تستفيد من هذه التطورات العامة في الزراعة. على الرغم من استمرارية الأساليب التقليدية، فإن إدخال أدوات حديثة واستصلاح الأراضي الجديدة (بما في ذلك من قبل اللاجئين) كان يعكس جهوداً لزيادة الإنتاجية وتلبية متطلبات السوق والضرائب. هذا يدل على أن الزراعة في حماة كانت في مرحلة انتقالية، حيث كانت تحافظ على جذورها التقليدية بينما تستوعب تدريجياً بعض الابتكارات والضغوط الاقتصادية الحديثة من الدولة المركزية. هذا يؤكد على أن حماة كانت جزءاً من ديناميكية اقتصادية أوسع في الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت تسعى لزيادة الإنتاج الزراعي ليس فقط لتلبية الاحتياجات المحلية، بل أيضاً للمساهمة في الاقتصاد النقدي للإمبراطورية.

ب. التجارة

موقع حماة كمركز تجاري: كانت حماة محطة توقف حيوية على الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب في سوريا، مما جعلها مركزاً مهماً للتجارة العابرة. بالإضافة إلى ذلك، كانت حماة مركزاً لمنطقتها الاقتصادية المحلية، مما يعني أنها كانت نقطة تجمع وتوزيع للسلع المنتجة في ريفها والمدن المحيطة. تاريخياً، كانت حماة مدينة هامة على طرق التجارة التي سعت الإمبراطوريات الكبرى مثل مصر وبابل لتأمينها، مما يؤكد أهميتها الاستراتيجية والتجارية عبر العصور.  

إن كون حماة “محطة توقف على الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب في سوريا” و”مركزاً لمنطقتها الاقتصادية المحلية” يشير إلى أن حماة لم تكن مجرد ممر للتجارة العابرة (الترانزيت) التي تربط بين حلب ودمشق والموانئ السورية، بل كانت أيضاً مركزاً حيوياً للتجارة الداخلية والإقليمية. هذا الدور المزدوج عزز من أهميتها الاقتصادية وجعلها نقطة التقاء للسلع والخدمات من داخل المنطقة وخارجها، مما أثرى أسواقها وجعلها نابضة بالحياة. هذا يدل على أن حماة كانت تتمتع بموقع استراتيجي فريد يمنحها ميزة اقتصادية مزدوجة، مما ساهم في ازدهار أسواقها وتنوع أنشطتها التجارية، وجعلها محوراً اقتصادياً مهماً في المنطقة.

الأسواق التقليدية والسلع المتداولة: تميزت أسواق حماة بتصميمها المعماري الإسلامي والعثماني الأصيل، مع أزقتها الضيقة وأقواسها الحجرية. يبرز “سوق الطويل” كواحد من أشهر الأسواق، حيث يمتد على طول شارع رئيسي ضيق ويقدم تشكيلة واسعة من المنتجات التقليدية والحديثة. “خان رستم باشا”، الذي بُني في القرن السادس عشر، كان معلماً تاريخياً هاماً، حيث استخدم كسوق للحرف اليدوية ومكان إقامة للتجار المسافرين.

لم تكن هذه الأسواق مجرد أماكن للتجارة، بل كانت مراكز اجتماعية وثقافية حيوية، حيث يلتقي السكان لتبادل الأخبار والقصص، وتتحول إلى مراكز للاحتفالات خلال الأعياد والمناسبات الدينية. السلع المتداولة كانت متنوعة وتشمل: الحرف اليدوية (مثل المنسوجات اليدوية، السجاد، الأواني الفخارية)، التوابل العطرية (مثل الزعفران، الكمون، السماق)، الحلويات السورية الشهيرة (مثل الكنافة، البقلاوة، المعمول)، الملابس التقليدية، المواد الغذائية، والمجوهرات التقليدية.  

ديناميكيات التجارة الداخلية والخارجية: لتعزيز التجارة، بنى العثمانيون العديد من المراكز التجارية والأسواق الكبيرة والخانات على الطرق الرئيسية، لتكون محطات للتجار والقوافل. في حين كانت التجارة الدولية في القرنين الرابع عشر والسابع عشر تحت سيطرة العثمانيين، خاصة عبر إحياء طريق الحرير وتأمين الطرق البرية. مع مطلع القرن التاسع عشر، بدأت تتوفر شروط أساسية لانطلاق التجارة الخارجية “السورية” بفضل خطوط النقل البحري بالسفن البخارية بين الساحل السوري والموانئ الأوروبية في عام 1841، مما أمن نقلاً بحرياً للبضائع بأسعار أقل كلفة.  

إن اعتماد حماة على الطرق البرية التقليدية والأسواق المحلية، وتزامن ذلك مع ظهور النقل البحري البخاري الأرخص كلفة بين الساحل السوري والموانئ الأوروبية في عام 1841، يشير إلى أن حماة، رغم طابعها التقليدي، لم تكن معزولة عن التحولات الاقتصادية العالمية.

تزايد كفاءة النقل البحري أدى إلى انخفاض تكلفة الواردات الأوروبية، مما كان يمكن أن يشكل تحدياً للصناعات والحرف اليدوية المحلية التي قد تجد صعوبة في المنافسة. هذا الضغط من الأسواق العالمية كان يدفع الصناعات المحلية إما إلى التكيف، أو التخصص في منتجات ذات قيمة مضافة، أو التركيز على الأسواق المحلية التي قد تكون أقل تأثراً بالمنافسة الخارجية. هذا يدل على أن حماة كانت تواجه تحديات وفرصاً جديدة نتيجة لاندماج الإمبراطورية العثمانية المتزايد في الاقتصاد العالمي، مما يتطلب مرونة من التجار والحرفيين المحليين للحفاظ على أنشطتهم الاقتصادية.

ج. الصناعة والحرف اليدوية

اشتهرت حماة بمجموعة متنوعة من الصناعات التقليدية والحرف اليدوية التي تعكس مهارة أهلها وتكيفهم مع الموارد المتاحة. من أبرز هذه الصناعات كانت الصناعات الخشبية، التي شملت النجارة العربية التقليدية، صناعة الأثاث المنزلي، نجارة النواعير التي كانت عنصراً حيوياً لاقتصاد المدينة، وصناعة الصناديق الخشبية، بالإضافة إلى أدوات الحراثة الضرورية للقطاع الزراعي.  

كما برزت الصناعات الهندسية والمعدنية، مثل الحدادة الإفرنجية والعربية، وخراطة المعادن، وصناعة الأثاث المعدني، وصناديق وهياكل السيارات، والقاطرات الزراعية، والأواني النحاسية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك صناعات جلدية مهمة. على مستوى الإمبراطورية العثمانية ككل، شهد قطاع التصنيع تحولاً نحو العمالة النسائية الريفية، بينما تراجعت أهمية العمالة الذكورية المنظمة في النقابات الحرفية. ورغم أن بعض الأسواق العالمية للمنتجات العثمانية تراجعت، إلا أن هذا التراجع كان يُعوض بزيادة في الاستهلاك والطلب المحلي. تجدر الإشارة إلى أن المكننة في الإنتاج، حتى في أوجها، ظلت جزءاً ضئيلاً من إجمالي الناتج بسبب نقص رأس المال، ومع ذلك، فقد أظهرت مراكز التصنيع استمرارية ملحوظة من القرن السابع عشر حتى عام 1914.  

الخاتمة

في مطلع القرن العشرين، كانت حماة مدينة سورية ذات هوية متجذرة، تتسم بحياة اجتماعية واقتصادية معقدة تحت مظلة الحكم العثماني المتأخر. لقد أكد موقعها الاستراتيجي ودورها كمركز لسنجق حماة على أهميتها الإدارية والديموغرافية داخل ولاية سوريا، حيث كانت نقطة ارتكاز حيوية للدولة العثمانية.

على الصعيد الاجتماعي، كشفت الدراسة عن بنية طبقية هرمية، حيث لعبت العائلات الكبرى، مثل آل العظم والعائلات الكردية البارزة، دوراً محورياً في الحياة السياسية والاقتصادية. لقد أظهرت هذه النخب قدرة فائقة على التكيف مع إصلاحات التنظيمات العثمانية، حيث استوعبت التغييرات الإدارية ضمن هياكل نفوذها القائمة، مما ضمن استمرارية سيطرتها المحلية بدلاً من إزاحتها. هذا التداخل بين السلطة السياسية والاقتصادية والأصول العرقية شكل نسيجاً معقداً من النفوذ، مما جعل هذه العائلات الفاعلين الرئيسيين في توجيه مسار المدينة.

اقتصادياً، ظلت حماة مدينة زراعية بامتياز، تعتمد بشكل كبير على نهر العاصي ونواعيرها التاريخية التي لم تكن مجرد أدوات للري، بل رمزاً للتكيف الهندسي والاستدامة المحلية. ورغم اعتمادها على الأمطار، مما جعلها عرضة للتقلبات المناخية، فإن تنوع محاصيلها الزراعية وتربية الحيوانات أضفى عليها مرونة نسبية. كما تأثرت الزراعة المحلية بالتطورات الاقتصادية العثمانية الأوسع، مثل مشاريع الري واستخدام الأدوات الحديثة، مما عكس جهوداً لزيادة الإنتاجية وتلبية متطلبات السوق والضرائب.

في مجال التجارة، تميزت حماة بدورها المزدوج كمركز للتجارة العابرة ومركز اقتصادي محلي لمنطقتها. كانت أسواقها التقليدية، مثل سوق الطويل وخان رستم باشا، مراكز حيوية للتبادل التجاري والاجتماعي والثقافي، حيث كانت السلع المتنوعة، من الحرف اليدوية إلى المنتجات الزراعية، تتدفق عبرها. ومع ذلك، لم تكن حماة بمنأى عن تأثيرات العولمة المبكرة، حيث أثر ظهور خطوط النقل البحري البخاري الأرخص كلفة على ديناميكيات التجارة، مما فرض تحديات جديدة على الصناعات والحرف اليدوية المحلية، ودفعها نحو التكيف أو التخصص.

في الختام، تُظهر حماة في مطلع القرن العشرين صورة لمدينة ذات مرونة وقدرة على التكيف، نجحت في الموازنة بين الحفاظ على هياكلها التقليدية واستيعاب التغيرات التي فرضتها الدولة العثمانية المتأخرة والتحولات الاقتصادية العالمية. لقد شكلت هذه الفترة حلقة وصل مهمة في تاريخ المدينة، مهدت لدخولها إلى الحياة الوطنية السورية الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى