حماة اليوم

كارثة بيئية في مصياف: حرائق تلتهم ٢٥٠٠ دونم حراجي.. والتضاريس تعقّد الإخماد

تقع مدينة مصياف في قلب سوريا، وهي بلدة تاريخية تشتهر بقلعتها العائدة للعصور الوسطى وجمالها الطبيعي الخلاب. تُعدّ مصياف مكانًا يلتقي فيه الماضي بالحاضر في تناغم فريد، حيث تحيط بها الغابات الخضراء التي تضفي على المنطقة سحرًا خاصًا. لكن هذا المشهد الجميل قد شُوّه مؤخرًا بسبب كارثة بيئية شديدة: حرائق التهمت 2500 دونم من الغابات، مخلفةً وراءها دمارًا واسعًا في النظام البيئي المحلي. لم تتوقف المشكلة عند هذا الحد، بل أضافت التضاريس الوعرة تحديات كبيرة لجهود مكافحة الحرائق، مما جعل السيطرة على النيران أمرًا بالغ الصعوبة. في هذا المقال، نستعرض تفاصيل هذه الكارثة، ونناقش آثارها على البيئة والمجتمع المحلي، والعقبات التي تواجه فرق الإطفاء، بالإضافة إلى الجهود المبذولة لاحتواء الأزمة والتطلع إلى المستقبل.

الكارثة

اندلعت الحرائق في مصياف في أواخر يونيو 2025، تحت ظروف لم يتم تحديدها بشكل نهائي بعد، لكن التقارير الأولية تشير إلى أنها قد تكون ناتجة عن مزيج من الجفاف الشديد والنشاط البشري غير المسؤول، مثل إلقاء أعقاب السجائر أو إشعال النار في مناطق مفتوحة دون رقابة. انتشرت النيران بسرعة عبر المناطق الحراجية، مدفوعةً بالرياح القوية ودرجات الحرارة المرتفعة التي تفاقمت بسبب موجة الحر التي اجتاحت المنطقة خلال تلك الفترة.

غطت الحرائق مساحة هائلة بلغت 2500 دونم، أي ما يعادل حوالي 250 هكتارًا من الأراضي الحراجية، مما يجعلها واحدة من أكبر الكوارث البيئية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة. أصبح حجم الدمار واضحًا مع تصاعد أعمدة الدخان الكثيفة في السماء، والتي شوهدت من مسافات بعيدة، بينما أضاءت النيران المتأججة المنحدرات الجبلية ليلاً. وقد استطاعت فرق الدفاع المدني وأفواج الإطفاء السيطرة على الحريق بعد يوم كامل.

الأثر البيئي

تركت الحرائق أثرًا بيئيًا عميقًا على المنطقة. الغابات المحيطة بمصياف ليست مجرد مساحات خضراء تزين المناظر الطبيعية، بل هي موطن لتنوع بيولوجي غني يشمل أشجار الصنوبر والسنديان والأرز، بالإضافة إلى حيوانات برية مثل الثعالب والأرانب والطيور المحلية. دمرت النيران موائل هذه الكائنات، مما يهدد بقاءها ويعرض التوازن البيئي للخطر.

علاوة على ذلك، أدى احتراق الغطاء النباتي إلى تعرية التربة وزيادة مخاطر الانهيارات الأرضية، خاصة أن المنطقة تتميز بتضاريس جبلية شديدة الانحدار. فقدان الأشجار يعني أيضًا تقلص قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه، مما قد يؤدي إلى جفاف الأراضي الزراعية القريبة وتدهور جودة المياه في الجداول المحلية. كما أطلقت الحرائق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، مما يساهم في تفاقم أزمة تغير المناخ العالمية، ويقلل من قدرة المنطقة على امتصاص الكربون في المستقبل بسبب فقدان الغابات.

تحديات مكافحة الحرائق

تواجه فرق الإطفاء في مصياف عقبات جمة تجعل السيطرة على الحرائق مهمة شبه مستحيلة في بعض الأحيان. التضاريس الجبلية الوعرة، التي تتسم بالمنحدرات الحادة والصخور المنتشرة، تعيق وصول المعدات والأفراد إلى مواقع الحريق. الطرق الضيقة وغياب المسارات الممهدة في المناطق النائية يزيدان من تعقيد الوضع، حيث يضطر رجال الإطفاء إلى حمل المعدات يدويًا أو الاعتماد على مسارات بدائية.

لم تقتصر التحديات على التضاريس فقط، بل لعبت الظروف الجوية دورًا سلبيًا أيضًا. الرياح القوية التي هبت على المنطقة غذت النيران وجعلت توقع مسارها أمرًا صعبًا، بينما أدت درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة جفاف الغطاء النباتي، مما جعله أكثر عرضة للاشتعال. كما أن نقص الموارد، مثل المياه الكافية أو الطائرات المخصصة للإطفاء، أضعف من قدرة الفرق على مواجهة الحريق بفعالية. ومع ذلك، تواصل الفرق عملها بشجاعة، مستخدمةً أساليب مبتكرة مثل إنشاء حواجز نارية يدوية والتعاون مع السكان المحليين للاستفادة من معرفتهم بالمنطقة.

تأثير المجتمع

لم تكن الحرائق مجرد كارثة بيئية، بل امتد أثرها ليشمل المجتمع المحلي في مصياف والقرى المجاورة. اضطر العشرات من السكان إلى إخلاء منازلهم خوفًا من اقتراب النيران، بينما عانى آخرون من مشاكل تنفسية ناجمة عن استنشاق الدخان الكثيف الذي غطى سماء المنطقة لأيام. اقتصاديًا، تكبدت الأسر التي تعتمد على الغابات في جمع الأخشاب أو منتجات مثل العسل والأعشاب الطبية خسائر كبيرة، ناهيك عن تراجع السياحة التي كانت تشكل مصدر دخل مهمًا بفضل الطبيعة الخلابة.

رغم ذلك، أظهر المجتمع المحلي روحًا تضامنية لافتة. تطوع العديد من الشباب والسكان لمساندة فرق الإطفاء، مقدمين المساعدة في نقل المعدات أو توفير الإمدادات الأساسية مثل الماء والطعام. هذا التكاتف يعكس قوة الإرادة والصمود لدى أهالي مصياف، الذين يواجهون هذه الأزمة بعزيمة لا تلين على الرغم من الخسائر النفسية والمادية الهائلة.

الاستجابة والجهود

استجابت السلطات المحلية والوطنية للكارثة بسرعة، حيث تم حشد فرق إطفاء من مختلف أنحاء سوريا لدعم الجهود في مصياف. تم تزويد هذه الفرق بمركبات إطفاء ومعدات أساسية، بينما ساهمت وحدات الحماية المدنية في تنسيق العمليات. كما أُفيد عن تقديم مساعدات من دول مجاورة، مثل توفير طائرات هليكوبتر لإسقاط المياه على المناطق التي يصعب الوصول إليها، وهو ما ساهم في تقليل الخسائر في بعض الجبهات.

من بين الاستراتيجيات المتبعة، عملت الفرق على إنشاء خطوط دفاعية عن طريق قطع الأشجار وإزالة الغطاء النباتي لمنع انتشار النيران، بينما استُخدمت الطائرات في رش مثبطات الحرائق على المناطق الأكثر تضررًا. ورغم الصعوبات، تمكنت الجهود من تحقيق تقدم ملحوظ في احتواء الحريق في المناطق الجنوبية من الغابات، مما أعطى الأمل في إمكانية السيطرة الكاملة على الوضع قريبًا.

الآثار المستقبلية

ستترك هذه الكارثة ندوبًا عميقة لسنوات قادمة. استعادة النظام البيئي المدمر ستتطلب جهودًا طويلة الأمد تشمل إعادة التشجير، وتثبيت التربة لمنع التعرية، وإعادة توطين الأنواع الحيوانية المتضررة. لكن الأهم من ذلك هو تعزيز التدابير الوقائية لتجنب تكرار مثل هذه الحوادث، مثل وضع خطط إدارة غابات أكثر فعالية، وتثقيف السكان حول مخاطر الحرائق، وتطوير أنظمة إنذار مبكر تعتمد على مراقبة الطقس والتنبؤ بالمخاطر.

كما تبرز هذه الأزمة الحاجة إلى مواجهة تغير المناخ على نطاق أوسع، حيث أصبحت موجات الحر والجفاف أكثر تكرارًا وشدة في المنطقة. استثمار الموارد في بنية تحتية حديثة لمكافحة الحرائق، مثل توفير طائرات إطفاء دائمة أو تحسين شبكات الطرق في المناطق الحراجية، قد يكون خطوة حاسمة لتقليل المخاطر المستقبلية.

الخاتمة

تشكل حرائق مصياف درسًا قاسيًا حول هشاشة البيئة الطبيعية وضرورة حمايتها. ومع استمرار الجهود للسيطرة على هذه الكارثة، يظل الأمل معلقًا على تعاون المجتمع والسلطات لاستعادة ما أمكن من الخسائر وبناء مستقبل أكثر أمانًا. إن التضامن والعزيمة التي أظهرها أهالي مصياف في مواجهة هذا التحدي تؤكد أن القوة الحقيقية تكمن في الوحدة والإصرار على الحفاظ على التراث الطبيعي للأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى