شخصيات حموية محورية في تاريخ سوريا الحديث: سير وأثر بعد الاستقلال

محتوى المقالة
مقدمة: شخصيات حموية
تاريخياً، كانت حماة مدينة ذات ثقل اقتصادي واجتماعي في سوريا، تميزت بوجود طبقة إقطاعية كبيرة ونشاط فلاحي واسع. هذا الواقع جعلها أرضاً خصبة للحركات السياسية والاجتماعية، خاصة تلك التي نادت بالإصلاح الزراعي والعدالة الاجتماعية. هذا السياق الاجتماعي والاقتصادي الفريد لحماة يفسر بروز شخصيات حموية ذات توجهات إصلاحية وشعبية منها، مما يعكس دور المدينة كرافد للقيادات الوطنية. لم تكن هذه الشخصيات مجرد أفراد، بل كانت تمثل تيارات واتجاهات سياسية وعسكرية مختلفة، مما يؤكد مركزية حماة في تشكيل النخبة السياسية السورية.
تزامنت فترة ما بعد الاستقلال السوري في منتصف القرن العشرين مع اضطرابات سياسية عميقة، تمثلت في سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية، وتأرجح مستمر بين الأنظمة الديمقراطية والعسكرية. هذه الخلفية ضرورية لفهم السياق الذي تحركت فيه شخصيات حموية، حيث كانت سوريا تشهد تحولات جذرية في بنيتها السياسية. كما شهدت هذه الفترة صراعاً حاداً بين الأيديولوجيات المختلفة، كالقومية العربية، والاشتراكية، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والتي كان لها تأثير بالغ على تشكيل الدولة السورية الحديثة. لم تكن هذه الصراعات مجرد نظريات أكاديمية، بل تجسدت في مسارات هذه الشخصيات وتنافساتها على السلطة والتأثير.
في هذا التقرير، سيتم تسليط الضوء على أربع شخصيات حموية بارزة لعبت أدواراً محورية في الحياة السياسية السورية بعد الاستقلال: أديب الشيشكلي (العسكري والرئيس)، أكرم الحوراني (الزعيم الشعبي والاشتراكي)، بهيج كلاس (الضابط المشارك في الانقلابات)، ورئيف الملقي (رجل القانون والبرلمان). كل منهم مثل تياراً أو جانباً من جوانب الحياة السياسية المعقدة في سوريا ما بعد الاستقلال، مما يبرز التنوع داخل النخبة الحموية نفسها.
المناصب الرئيسية لـ شخصيات حموية محورية
يوضح الجدول التالي أبرز المناصب والإسهامات لكل شخصية من شخصيات حموية التي أثرت في تاريخ سوريا الحديث:
الشخصية | سنوات الميلاد والوفاة | أبرز المناصب السياسية/العسكرية | السنوات | أبرز الإسهامات/الأدوار |
أديب الشيشكلي | 1909 – 1964 | قائد الانقلاب العسكري الثالث، رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء | 1949، 1953-1954 | ترسيخ الحكم العسكري، تأسيس حركة التحرر العربية، إصلاح زراعي |
أكرم الحوراني | 1911 – 1996 | نائب برلماني، وزير زراعة، وزير دفاع، رئيس برلمان، نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة | 1943-1962، 1949-1950، 1957-1958، 1958-1960 | رائد الإصلاح الزراعي، مؤسس الحزب العربي الاشتراكي، شريك في تأسيس حزب البعث |
بهيج كلاس | 1907 – 1964/1965 | أحد مؤسسي الجيش السوري، قائد أركان المنطقة الشمالية، عضو المجلس العسكري | 1945-1946، 1949 | مشارك رئيسي في انقلابات 1949، مدير مؤسسة التبغ |
رئيف الملقي | 1903 – 1988 | نائب برلماني، مشرّع في الدستور، وزير معارف، وزير اقتصاد بالوكالة، نائب في مجلس الأمة (الوحدة) | 1943-1961، 1950، 1956، 1951، 1955، 1958 | صياغة الدساتير، دعم الوحدة العربية وجمال عبد الناصر، رجل قانون |
I. أديب الشيشكلي: العسكري الذي حكم سوريا
نشأته ومسيرته العسكرية المبكرة
أبرز شخصية من شخصيات حموية، وُلد أديب الشيشكلي في مدينة حماة عام 1909 لعائلة مرموقة، حيث كان والده حسن الشيشكلي وأمه منور الباكير البرازي يتمتعان بالاحترام في المجتمع الحموي. نشأ الشيشكلي في بيئة محافظة وقريبة من التراث الثقافي للمدينة. تخرج من الكلية العسكرية بدمشق (التي نُقلت لاحقاً إلى حمص) عام 1929 أو 1930، وبدأ مسيرته كضابط في الجيش السوري. كانت مسيرته التعليمية والعسكرية المبكرة أساساً متيناً لمسيرته السياسية اللاحقة، حيث ساهمت في تشكيل شخصيته القيادية.
شارك الشيشكلي في حرب 1948 كأحد العسكريين السوريين في جيش الإنقاذ بفلسطين، وتأثر خلالها بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي. أكسبته هذه المشاركة نفوذاً واسعاً وتأييداً بين صفوف ضباط الجيش، حيث قدم نموذجاً عن الزعيم العربي الذي يسعى إلى نصرة قضايا الأمة.
صعوده إلى السلطة: الانقلابات العسكرية ورئاسة الجمهورية (1949-1954)
كان الشيشكلي قائد الانقلاب العسكري الثالث في تاريخ سوريا، والذي حدث في 19 ديسمبر 1949. في صباح ذلك اليوم، أصدر بلاغاً بتوقيعه أكد فيه إقصاء سامي الحناوي وأسعد طلس عن القيادة، متهماً إياهم بالتآمر على سلامة الجيش والبلاد. استولى الشيشكلي على السلطة على دفعات منذ عام 1951 وحتى عام 1954.
في 2 ديسمبر 1951، تولى مهام رئيس الأركان العامة ورئيس المجلس العسكري الأعلى، مع كافة الصلاحيات الممنوحة للسلطات التنفيذية، في ما عُرف بـ “الحكم المزدوج”. هذا النهج المزدوج بين القيادة العسكرية والوجود في الحكومة مكنه من فرض تصوراته على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في سوريا. في يوليو 1953، أصبح رئيساً للجمهورية السورية ورئيساً للوزراء، واستمر في المنصب حتى فبراير/مارس 1954.
أبرز سياساته الداخلية والخارجية
السياسات الداخلية: سعى الشيشكلي إلى احتكار العمل السياسي من خلال هيئة سياسية مركزية هي “حركة التحرر العربية”، التي أسسها في أغسطس 1952. كانت هذه الحركة ذات توجه تقدمي، وقبلت النساء في صفوفها، ودعت إلى درجة محدودة من الاشتراكية. كما أصدر مرسوماً في 15 يناير 1952 بحل معظم الأحزاب السياسية في سوريا، مثل حزبي الشعب والوطني والإخوان المسلمين والتعاوني الاشتراكي، وأبقى على البعث والعربي الاشتراكي فقط، قبل أن يحل جميع الأحزاب بلا استثناء في 6 أبريل 1952.
اهتم الشيشكلي بالإصلاح الزراعي وتوسيع الضرائب على البرجوازية وتجنيد النساء في الجيش، وهي أفكار لم تكن بعيدة عن أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تأثر به. كما قام بتوحيد الصحف وجعلها أربع صحف تصدر في دمشق وحمص وحلب والجزيرة. حاول إضفاء الشرعية على حكمه عبر تنظيم انتخابات رئاسية في منتصف عام 1953، لكنه واجه معارضة متزايدة. عمل على بناء “عبادة شخصية” حول نفسه، حيث زينت صوره واجهات المحلات، وأنشأ وزارة مخصصة للإعلام والدعاية.
السياسات الخارجية: عرف الشيشكلي بسياسات قريبة من سياسات الرئيس جمال عبد الناصر، وارتبط معه بعلاقات قوية. يُعتقد أن ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 قد استلهمت من انقلابات الشيشكلي في عامي 1949 و1951. سعى الشيشكلي لعلاقات جيدة مع الدول الغربية، لكنه حافظ على موقف سوريا الثابت وغير المتهاون تجاه إسرائيل. كانت علاقاته سيئة مع الملكيات الهاشمية في الأردن والعراق، لكنه وثق بالملك طلال من الأردن الذي أكد له عدم وجود طموحات في سوريا. اشتبك الشيشكلي بشكل متكرر مع الأقلية الدرزية في جبل العرب، واتهمهم بمحاولة إسقاط نظامه بتمويل من الأردن، ولجأ إلى قصف معاقلهم في عام 1954 لقمع المقاومة.
مواجهة المعارضة وسقوط حكمه
عندما شعر الشيشكلي بتعاظم المعارضة الداخلية لنظامه العسكري، أصدر مرسوم تشكيل وزارة في يونيو 1952، وأعلن أن الجيش سيدعم مشاريع الحكومة دون التدخل. ومع ذلك، واجه معارضة قوية من عدة أطراف سياسية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع شعبيته ونشوب اضطرابات سياسية. قام بنفي قادة حزب البعث مثل أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار إلى لبنان، حيث عملوا بنشاط ضد نظامه. أدت هذه التوترات إلى إجباره على التخلي عن الحكم في فبراير 1954، حيث قدم استقالته “رغبة منه في تجنب سفك دماء الشعب”.
إرثه وتأثيره على المشهد السياسي السوري
كانت فترة رئاسة الشيشكلي قصيرة نسبياً لكنها كانت مليئة بالأحداث والتغييرات التي تركت أثراً دامغاً على السياسة السورية، وساهمت في ترسيخ دور المؤسسة العسكرية كعمود فقري للدولة. يُعد الشيشكلي شخصية محورية في حقبة الانقلابات والفوضى وصعود العسكريتاريا في سوريا. اغتيل في البرازيل عام 1964، مما أنهى مسيرة أحد أبرز قادة سوريا في فترة ما بعد الاستقلال.
يمكن ملاحظة أن أفعال الشيشكلي كانت مدفوعة برغبة في توطيد السلطة وتحقيق الاستقرار في سوريا المضطربة. فقد قام بتركيز النشاط السياسي تحت مظلة “حركة التحرر العربية” وحل الأحزاب الأخرى، بهدف إنشاء جبهة سياسية موحدة. كما ركز على الإصلاحات الداخلية مثل توزيع الأراضي الزراعية والإجراءات الاقتصادية، والتي يمكن اعتبارها محاولات لبناء قاعدة شعبية وتحديث الدولة. ومع ذلك، فإن هذا النهج الذي اعتمد على قمع التعددية السياسية والاعتماد على القوة العسكرية للحفاظ على السيطرة، أدى في نهاية المطاف إلى نفور قطاعات واسعة من النخبة السياسية والشعب، مما أسفر عن تصاعد المعارضة وسقوطه في نهاية المطاف.
هذا يبرز نمطاً متكرراً في السياسة السورية بعد الاستقلال: محاولات القادة الأقوياء لفرض الاستقرار بوسائل استبدادية غالباً ما تأتي بنتائج عكسية، مما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار ودورة من الانقلابات. قمع المعارضة، بدلاً من خلق الاستقرار، دفع المعارضة إلى العمل السري حتى انفجرت.
يمتد إرث الشيشكلي إلى ما وراء سوريا، حيث تشير المصادر إلى أن “العديد يعتقدون أن ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 قد تم تصميمها على غرار انقلابات الشيشكلي في عامي 1949 و1951”. هذا يشير إلى أن أساليب الشيشكلي في الاستيلاء العسكري على السلطة والحكم اللاحق – والتي شملت مركزية السلطة، وتطبيق الإصلاحات الاجتماعية مثل إعادة توزيع الأراضي الزراعية، وتعزيز عبادة الشخصية – لم تكن مقتصرة على سوريا بل كانت بمثابة نموذج أو مصدر إلهام لقادة قوميين آخرين في العالم العربي.
علاقته القوية بجمال عبد الناصر تعزز فكرة تبادل الاستراتيجيات العسكرية والسياسية. هذا يرفع من أهميته التاريخية من سياق سوري بحت إلى سياق إقليمي، حيث ساهمت أفعاله في تحديد نموذج جديد للحكم في العالم العربي بعد الاستعمار، حيث أصبح الضباط العسكريون، بدلاً من السياسيين المدنيين التقليديين، الفاعلين الرئيسيين للتغيير السياسي وبناء الأمة.
أديب الشيشكلي: التسلسل الزمني للمناصب والسياسات الرئيسية
السنة | المنصب/الحدث | التفصيل/التأثير |
1909 | الميلاد | ولد في حماة. |
1929/1930 | التخرج العسكري | تخرج من الكلية العسكرية بدمشق. |
1948 | حرب فلسطين | شارك في حرب 1948، مما أكسبه نفوذاً بين الضباط. |
19 ديسمبر 1949 | انقلاب عسكري | قاد الانقلاب العسكري الثالث، وأقصى سامي الحناوي. |
1951 | السيطرة التدريجية | بدأ بالسيطرة على السلطة على دفعات. |
2 ديسمبر 1951 | الحكم المزدوج | تولى مهام رئيس الأركان العامة ورئيس المجلس العسكري الأعلى. |
15 يناير 1952 | حل الأحزاب | أصدر مرسوماً بحل معظم الأحزاب السياسية. |
يناير 1952 | الإصلاح الزراعي | وقع مرسوماً لتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين (بتأثير من الحوراني). |
أغسطس 1952 | تأسيس حركة التحرر | أسس “حركة التحرر العربية” كحزب رسمي. |
منتصف 1953 | انتخابات رئاسية | أجرى انتخابات ليصبح رئيساً، لكنه واجه معارضة متزايدة. |
11 يوليو 1953 | رئيس الجمهورية | أصبح الرئيس العاشر للجمهورية السورية. |
19 يوليو 1953 | رئيس الوزراء | تولى منصب رئيس الوزراء. |
1954 | قصف جبل العرب | قصف معاقل الدروز لقمع المقاومة. |
25 فبراير 1954 | الاستقالة والنفي | استقال من الرئاسة وغادر سوريا تحت ضغط المعارضة. |
27 سبتمبر 1964 | الوفاة | اغتيل في البرازيل. |
II. أكرم الحوراني: رائد الإصلاح الاشتراكي والبعثي
خلفيته ونشاطه السياسي المبكر في حماة
ثاني شخصية من شخصيات حموية، وُلد أكرم الحوراني في حماة عام 1911 وتوفي في عمان، الأردن، عام 1996 بعد سنوات طويلة في المنفى. درس الحقوق في جامعة دمشق بعد أن قضى عاماً في دراسة الطب ببيروت. بدأ نشاطه السياسي مبكراً، وانضم لفترة وجيزة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1936، لكنه ندم على ذلك وغادره عام 1938. عاد إلى حماة وتولى قيادة “حزب الشباب” الذي أسسه ابن عمه عثمان الحوراني، والذي كان نواة “الحزب العربي الاشتراكي”.
كان الحوراني من أشد المهاجمين للنظام الإقطاعي السائد في محافظة حماة، حيث كان كبار الملاكين يسيطرون على معظم الأراضي والفلاحين. دعا بقوة إلى الإصلاح الزراعي، مما أكسبه دعماً شعبياً كبيراً بين الفلاحين في حماة ومحافظتها.
دوره البرلماني والوزاري المتعدد
انتخب الحوراني نائباً عن حماة في البرلمان السوري لأول مرة عام 1943، واحتفظ بمقعده في انتخابات 1947، 1949 (الجمعية التأسيسية)، 1954، و1962. شغل مناصب وزارية مهمة: وزيراً للزراعة في حكومة هاشم الأتاسي الثانية (أغسطس-ديسمبر 1949)، ووزيراً للدفاع الوطني في حكومة خالد العظم (ديسمبر 1949-يونيو 1950). انتخب رئيساً للبرلمان السوري عام 1957، وساهم في إدخال إصلاحات اجتماعية واقتصادية تقدمية.
تأسيس الحزب العربي الاشتراكي واندماجه مع حزب البعث
أسس الحوراني “الحزب العربي الاشتراكي” في أواخر عام 1949 أو 1950. وصل عدد أعضائه إلى ما لا يقل عن 10 آلاف، وكان قادراً على جذب ما يصل إلى 40 ألف شخص من الريف. في نوفمبر 1952، وبينما كان في المنفى بلبنان بعد حظر الشيشكلي لحزبه، وافق الحوراني على دمج حزبه العربي الاشتراكي مع حزب البعث العربي (بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار). هذا الاندماج أدى إلى تشكيل “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وزود حزب البعث بقاعدة كبيرة من المؤيدين النشطين لأول مرة. كان الحوراني عضواً في القيادة القومية لحزب البعث، وهي قيادته القومية العربية، منذ تأسيسها عام 1954 حتى عام 1959.
جهوده في الإصلاح الزراعي وتأثيره على الفلاحين
كان الحوراني من أبرز المدافعين عن الإصلاح الزراعي، ونظم أتباعه من الفلاحين في الحزب العربي الاشتراكي، وحرضهم على الملاكين. بلغت الاحتجاجات أوجها في مؤتمر حلب عام 1951، مما أدى إلى أحداث عنف وإحراق محاصيل وإطلاق النار على بيوت الملاكين. كان تأثيره واضحاً في قرار أديب الشيشكلي التوقيع على مرسوم في يناير 1952 يقضي بتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين.
علاقته بالوحدة مع مصر ومرحلة المنفى
بعد معاهدة الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، أصبح الحوراني نائباً لرئيس الجمهورية العربية المتحدة تحت قيادة جمال عبد الناصر، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1960. استقال من منصبه في الجمهورية العربية المتحدة عام 1959 وذهب إلى المنفى في لبنان بعد هجوم عبد الناصر اللفظي على حزب البعث وقمع أعضائه. عارض بشدة الصعود إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، كما يتضح من معارضته الشديدة لـ “تمرد قطنا” عام 1957. انتهت علاقته مع عفلق بشكل سيء عام 1962.
وعندما أدى انقلاب عسكري عام 1961 في سوريا إلى حل الجمهورية العربية المتحدة، أيد الحوراني علناً الانفصال. انقسم حزب البعث، ومع تفضيل القيادة القومية لإعادة التوحيد، غادر الحوراني وتم طرده رسمياً في يونيو 1962، ثم أعاد تأسيس الحزب العربي الاشتراكي مع مواليه. اعتقل وسجن ونفي من سوريا بعد انقلاب آذار 1963 الذي أوصل البعثيين إلى السلطة. قضى سنواته الأخيرة في عمان، الأردن، حيث توفي عام 1996.
إرثه السياسي والثقافي في سوريا
يُعد أكرم الحوراني شخصية مؤثرة للغاية في السياسة السورية من بداية الأربعينيات حتى نفيه عام 1963، ولعب دوراً بارزاً في تشكيل حركة شعبية قومية واسعة وصعود حزب البعث. ترك مذكرات مهمة توثق جوانب من تاريخ سوريا، وهي مصدر قيم للباحثين. كانت علاقته مع أديب الشيشكلي متقلبة، بدأت قوية ثم تحولت إلى عداء بسبب الطموحات الرئاسية وتسييس الجيش. وقد اتُهم الحوراني بأنه “أهم شخص يتحمل مسؤولية تسييس الجيش بعد الاستقلال”.
لقد تشكلت المسيرة السياسية للحوراني بشكل أساسي من خلال مواجهته المباشرة للنظام الإقطاعي في حماة. تظهر جهوده لتنظيم الفلاحين وتحريضهم ضد الملاكين أن المظالم الاجتماعية والاقتصادية لم تكن مجرد قضايا ثانوية، بل كانت قوى دافعة قوية للحراك السياسي في سوريا بعد الاستقلال. إن نجاحه في الحصول على “دعم شعبي كبير في حماة ومحافظتها” يوضح أن القائد الذي يعبر عن هذه المظالم ويتصرف بناءً عليها يمكنه بناء قاعدة سياسية قوية. هذا يشير إلى أن النخبة السياسية التقليدية، التي كانت غالباً مرتبطة بملكية الأراضي، كانت عرضة للحركات الشعبية التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية.
هذا الضغط من القاعدة الشعبية، الذي قاده شخصيات مثل الحوراني، أجبر الأجندة السياسية الوطنية على تضمين قضايا مثل الإصلاح الزراعي، بل وأثر حتى على حكام عسكريين مثل الشيشكلي لتبني سياسات مماثلة. يؤكد تأثير الحوراني أن حركات العدالة الاجتماعية كانت محركاً حاسماً للتغيير السياسي، وليست مجرد نتيجة لصراعات القوى النخبوية.
لم يكن اندماج حزب الحوراني العربي الاشتراكي مع حزب البعث العربي في عام 1952 مجرد تحالف سياسي، بل كان ضخاً استراتيجياً للدعم الشعبي. تشير المصادر بوضوح إلى أن هذا الاندماج “زود حزب البعث بقاعدة كبيرة من المؤيدين النشطين لأول مرة”. هذا يوحي بأنه بينما قدم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار الإطار الفكري والأيديولوجي للبعث، جلب الحوراني العنصر الحاسم المتمثل في الجاذبية الجماهيرية والقوة التنظيمية، خاصة بين السكان الريفيين والطبقة العاملة، وهو ما كان يفتقر إليه حزب البعث الناشئ.
بدون قاعدة الحوراني الشعبية، ربما لم يكن حزب البعث ليحقق المكانة السياسية والهيمنة التي حققها في الخمسينيات وما بعدها. لم تكن مساهمته مجرد دمج أسماء أو قادة، بل كانت توسعاً جوهرياً للنطاق الاجتماعي للحزب، مما حوله من طليعة فكرية إلى قوة سياسية مهمة ذات دعم شعبي. هذا يكشف عن عامل حاسم، غالباً ما يتم التقليل من شأنه، في صعود البعث، ويوضح كيف يمكن لزعيم شعبي كاريزمي من مركز إقليمي أن يعيد تشكيل الديناميكيات السياسية الوطنية.
أكرم الحوراني: المسار السياسي والإصلاحي
السنة | المنصب/الحدث | الدور/الأثر |
1911 | الميلاد | ولد في حماة. |
1936 | الانضمام للحزب القومي | انضم لفترة وجيزة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. |
1938 | تأسيس حزب الشباب | ترك الحزب القومي وتولى قيادة “حزب الشباب” في حماة (نواة الحزب العربي الاشتراكي). |
1943 | نائب برلماني | انتخب نائباً عن حماة في البرلمان السوري لأول مرة. |
1949 | وزير زراعة | شغل منصب وزير الزراعة في حكومة هاشم الأتاسي. |
1949 | وزير دفاع | شغل منصب وزير الدفاع الوطني في حكومة خالد العظم. |
1949/1950 | تأسيس الحزب العربي الاشتراكي | أسس الحزب العربي الاشتراكي، وبنى قاعدة شعبية واسعة بين الفلاحين. |
1951 | مؤتمر حلب | قاد احتجاجات الفلاحين المطالبة بالإصلاح الزراعي. |
يناير 1952 | تأثير على الشيشكلي | أثر على أديب الشيشكلي لإصدار مرسوم توزيع أراضي الدولة. |
نوفمبر 1952 | الاندماج مع البعث | دمج الحزب العربي الاشتراكي مع حزب البعث العربي، مما عزز قوة البعث. |
1954-1959 | القيادة القومية للبعث | عضو في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. |
1957 | رئيس البرلمان | انتخب رئيساً للبرلمان السوري. |
1958-1960 | نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة | شغل منصب نائب الرئيس تحت جمال عبد الناصر. |
1959 | الاستقالة والمنفى | استقال من منصبه في UAR وذهب إلى المنفى في لبنان. |
1961 | دعم الانفصال | أيد علناً انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة. |
يونيو 1962 | الانشقاق عن البعث | غادر حزب البعث وأعيد تأسيس الحزب العربي الاشتراكي. |
1963 | الاعتقال والنفي | اعتقل وسجن ثم نفي من سوريا بعد انقلاب آذار. |
1996 | الوفاة | توفي في عمان، الأردن. |
III. بهيج كلاس: الضابط في قلب الانقلابات
مسيرته العسكرية ودوره في تأسيس الجيش السوري
وُلد بهيج كلاس في حماة عام 1907، مع إشارات إلى عامي 1904 أو 1905 في مصادر أخرى. توفي في نوفمبر 1964 أو 1965 بعد صراع طويل مع المرض. تخرج من الكلية الحربية في حمص عام 1925 أو 1926. التحق بجيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي عام 1925، ووصل إلى قيادة بطارية مدفعية في حلب. انشق عن الفرنسيين في 29 مايو 1945 استجابة لنداء رئيس الجمهورية شكري القوتلي عشية العدوان الفرنسي على دمشق، وانضم إلى صفوف الثوار. كان أحد الآباء المؤسسين للجيش السوري في 1 أغسطس 1945 أو 1946. بعد جلاء القوات الفرنسية، عُين رئيساً لأركان المنطقة الشمالية وقائداً لفوج المدفعية الرابع عام 1946. شارك في حرب فلسطين عام 1948، حيث تعمقت صداقته بقائد الجيش حسني الزعيم.
مشاركته في انقلابات عام 1949 (حسني الزعيم وسامي الحناوي)
كان كلاس مقرباً وصديقاً لحسني الزعيم، الذي عينه مديراً لمكتبه العسكري في هيئة الأركان العامة. كان كلاس والزعيم ناقمين على الطبقة السياسية الحاكمة ومنزعجين من كثرة الاتهامات التي وجهت للمؤسسة العسكرية من قبل أعضاء مجلس النواب، خاصة فيصل العسلي. شارك كلاس في انقلاب حسني الزعيم في 29 مارس 1949، حيث كان حاضراً في احتلال دمشق ليلاً. بعد الانقلاب، رقاه الزعيم إلى رتبة “عقيد” وأعاد تعيينه مديراً لمكتبه العسكري، وتولى مهام الحاكم العرفي في سوريا. رافق شكري القوتلي (الرئيس المخلوع) من منزله إلى الطائرة في مطار دمشق في 28 يونيو 1949، وقدم له التحية العسكرية قبل سفره إلى جنيف. سعى كلاس بعدها لإطلاق سراح ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، المعتقل في سجن المزة.
دب الخلاف بينه وبين حسني الزعيم بعد تسليم الزعيم لأنطون سعادة (مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي) للحكومة اللبنانية وإعدامه في 8 يوليو 1949، مما أثار اشمئزاز العديد من الضباط، بمن فيهم كلاس. استمرت القطيعة بينهما حتى مشاركته في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالزعيم وأدى إلى مقتله رمياً بالرصاص في 14 أغسطس 1949. بعد ساعات من نجاح الانقلاب، سُمي بهيج كلاس عضواً في المجلس العسكري الذي شكله مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي لإدارة شؤون البلاد.
تحدياته بعد الانقلابات ودوره اللاحق
اعتقل بهيج كلاس في عهد أديب الشيشكلي مرتين؛ الأولى لقربه من سامي الحناوي، والثانية إبان اتهامه سنة 1950 بالضلوع في محاولة انقلاب لصالح ملك الأردن عبد الله الأول. لكن القضاء السوري أمر بإطلاق سراحه في يناير 1951 لعدم توفر أدلة كافية. بعد إطلاق سراحه، قدم استقالته من الجيش السوري. عُين ملحقاً عسكرياً في واشنطن عام 1950 لكنه امتنع عن الالتحاق بالمنصب، ثم عُين مديراً لمؤسسة التبغ والتبناك سنة 1951. ارتدى البزة العسكرية ثانية إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. توفي بهيج كلاس عن عمر ناهز 58 عاماً في نوفمبر 1964 أو 1965.
توضح مشاركة بهيج كلاس في انقلابات متعددة وعلاقته المتقلبة مع قادة مثل الزعيم والشيشكلي الطبيعة غير المستقرة والشخصية للسلطة العسكرية في سوريا بعد الاستقلال. لم يكن الضباط مجرد موظفين حكوميين، بل كانوا فاعلين سياسيين نشطين، وغالباً ما كانوا حاسمين، حيث يمكن أن تتغير ولاءاتهم بسرعة بناءً على المظالم الشخصية أو المصلحة الوطنية المتصورة. هذا ساهم بشكل كبير في دورة عدم الاستقرار بدلاً من توفير أساس مستقر للدولة.
IV. رئيف الملقي: رجل القانون والبرلمان
نشأته ومسيرته القانونية والبرلمانية
وُلد رئيف محمد ياسين الملقي في حي الغنم بمدينة حماة عام 1903، وتوفي في 24 يونيو 1988 عن عمر ناهز 84 عاماً. درس في مدرسة التجهيز الأولى ثم التحق بجامعة دمشق وتخرج من قسم الحقوق عام 1926. عمل بالمحاماة وانضم إلى الكتلة الوطنية، وشارك في الثورة السورية الكبرى في حماة.
كان عضواً في الكتلة الوطنية بعد تأسيسها عام 1927، وعمل مع زعيمها الحموي الدكتور توفيق الشيشكلي. لعب دوراً هاماً في الإضراب الستيني في حماة سنة 1936، وانتخب نهاية ذلك العام نائباً في مجلس النواب ممثلاً عن الكتلة الوطنية. أعيد انتخابه نائباً سنة 1943، وفي 15 تشرين الثاني 1949 انتُخب مشرعاً في الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور سوريا الجديد عام 1950. كان من المشرعين في دستور سوريا الجديد عام 1956.
مناصبه الوزارية ودعمه للوحدة العربية
تولى الملقي عدة حقائب وزارية في مرحلة الخمسينيات. ففي آذار 1951، سُمي وزيراً للمعارف والاقتصاد بالوكالة في حكومة خالد العظم الرابعة. ثم أصبح وزيراً للمعارف في حكومة صبري العسلي الثانية في شباط 1955.
عند قيام الوحدة السورية-المصرية عام 1958، انتُخب الملقي نائباً عن حماة في مجلس الأمة المشترك، وكان من أنصار الرئيس جمال عبد الناصر. اعتزل رئيف الملقي العمل السياسي في مرحلة الانفصال وتفرغ لمهنة المحاماة حتى وفاته.
إرثه وتأثيره على سوريا
تُظهر مسيرة رئيف الملقي كقانوني وبرلماني ووزير، ولا سيما مشاركته في صياغة دستور عام 1950 واستمراره في الحياة البرلمانية، الجانب المدني والقانوني للحياة السياسية السورية في فترة هيمن عليها التدخل العسكري. إن دعمه لجمال عبد الناصر والوحدة العربية يعكس أيضاً التيارات القومية العربية القوية التي أثرت على السياسيين المدنيين، مما يوضح كيف تفاعل حتى الشخصيات غير العسكرية مع المشهد الأيديولوجي المعقد. انسحابه من العمل السياسي خلال فترة الانفصال يؤكد التحديات وخيبة الأمل التي واجهها السياسيون المدنيون العالقون بين الحكم العسكري والتطلعات القومية العربية.
الخاتمة
لقد لعبت شخصيات حموية مثل أديب الشيشكلي، وأكرم الحوراني، وبهيج كلاس، ورئيف الملقي أدواراً محورية ومتنوعة في تشكيل المشهد السياسي السوري بعد الاستقلال. تعكس مساراتهم المهنية والسياسية التناقضات والتحولات العميقة التي شهدتها سوريا في منتصف القرن العشرين.
أديب الشيشكلي، العسكري الذي وصل إلى سدة الرئاسة عبر الانقلابات، جسد محاولة لفرض الاستقرار من خلال مركزية السلطة والاعتماد على المؤسسة العسكرية. ورغم أن سياساته الإصلاحية كانت تهدف إلى تحديث الدولة، إلا أن قمعه للمعارضة وحل الأحزاب أدى إلى تفاقم عدم الاستقرار ومهد الطريق لسقوطه. كما أن نموذجه في الحكم العسكري ألهم حركات مماثلة في المنطقة، مما يبرز تأثيره الذي تجاوز الحدود السورية.
في المقابل، يمثل أكرم الحوراني القوة الشعبية والإصلاحية، التي تحدت النظام الإقطاعي التقليدي وبنت قاعدة جماهيرية واسعة بين الفلاحين. كان دوره في تأسيس الحزب العربي الاشتراكي ودمجه مع حزب البعث حاسماً في تزويد الأخير بدعم شعبي لم يكن يمتلكه، مما غير مسار الحزب وأثر على صعوده اللاحق. لقد أظهر الحوراني كيف يمكن للمظالم الاجتماعية أن تتحول إلى قوة سياسية دافعة للتغيير.
أما بهيج كلاس، فقد كان مثالاً للضابط العسكري الذي شارك بفاعلية في دوامة الانقلابات التي ميزت تلك الفترة. تعكس مسيرته التقلبات السريعة في الولاءات داخل المؤسسة العسكرية، وكيف أصبحت هذه المؤسسة لاعباً سياسياً رئيسياً، مما أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي.
وأخيراً، يمثل رئيف الملقي الجانب القانوني والبرلماني في الحياة السياسية السورية. فبصفته مشرعاً ووزيراً ونائباً برلمانياً، سعى إلى ترسيخ الأطر الدستورية والقانونية للدولة، كما عبر عن تطلعات الوحدة العربية من خلال دعمه لجمال عبد الناصر. تعكس مسيرته التحديات التي واجهها السياسيون المدنيون في فترة هيمن عليها التدخل العسكري.
في الختام، تظهر سير هذه الشخصيات الحمَوية الأربع التفاعل المعقد بين القوى العسكرية والمدنية، والصراعات الأيديولوجية، والتطلعات الشعبية التي شكلت سوريا الحديثة. لقد تركت بصماتها الواضحة على تاريخ البلاد، مقدمة دروساً حول طبيعة السلطة، ودور الجيش في السياسة، وأهمية العدالة الاجتماعية في بناء الدولة.