مدن وقرى

مدينة السقيلبية: تاريخ عريق، حاضر صامد، ومستقبل واعد

I. مقدمة: مدينة السقيلبية في لمحة عامة

تُعد مدينة السقيلبية جوهرة تاريخية وحضارية تقع في قلب ريف حماة الغربي، سوريا. تشكل هذه المدينة نقطة محورية في المنطقة، ليس فقط لموقعها الجغرافي المتميز ولكن أيضاً لعمقها التاريخي ودورها المتنامي كمركز إداري واقتصادي. تقع مدينة السقيلبية إلى الشمال الغربي من مدينة حماة، على مسافة تقدر بنحو 48 كيلومتراً. هذا الموقع الاستراتيجي يضعها في منطقة حيوية، تجمع بين خصوبة سهل الغاب وأهمية القرب من المراكز الحضرية الكبرى.  

تكتسب مدينة السقيلبية أهمية إدارية بالغة كونها مركز منطقة السقيلبية الإدارية. تضم هذه المنطقة الإدارية عدة نواحٍ فرعية حيوية مثل سلحب، الزيارة، شطحة، وقلعة المضيق، مما يعزز من دورها كمركز خدمي وإداري للمناطق المحيطة. تتميز المدينة بموقعها على الضفة الغربية لنهر العاصي، بالقرب من جبل ريحة، وتشرف على حوض سهل الغاب الخصب. هذه الخصائص الجغرافية تمنحها بعداً زراعياً وبيئياً غنياً، وتجعلها جزءاً لا يتجزأ من النسيج الطبيعي والاقتصادي للمنطقة. إحداثياتها الجغرافية الدقيقة هي 36.3958424 خط الطول و 35.3600693 اتساع، وتعمل ضمن التوقيت الرسمي لشرق أوروبا.  

مدينة السقيلبية هي مدينة عريقة تعود جذورها إلى أيام الآراميين، وقد ازدهرت تاريخياً بالتوازي مع ازدهار مدينة أفاميا الأثرية التي تقع شمالها. يعكس تاريخها الحافل بالصمود قدرة استثنائية على البقاء والتجدد، حيث هُجرت وأعيد إعمارها عدة مرات عبر العصور. هذا التراث الغني يمنح المدينة هوية فريدة، تجمع بين عراقة الماضي وحيوية الحاضر.  

يتبين من التطور الإداري والنمو العمراني لـ مدينة السقيلبية أن هناك علاقة وثيقة بين موقعها الجغرافي وما شهدته من تحولات. فالمعلومات المتاحة توضح أن المدينة انتقلت إدارياً من مستوى قرية إلى مركز منطقة مباشرة في عام 1964، دون المرور بمرحلة الناحية التقليدية. هذا التطور الإداري السريع لم يكن محض صدفة، بل تزامن مع مشروع تجفيف سهل الغاب واستصلاحه بعد عام 1960، والذي كان له “أثر كبير في هذا التطور”. هذا يشير إلى أن قرار ترقية مدينة السقيلبية إلى مركز إداري كان استجابة استراتيجية للفرص الزراعية والاقتصادية الهائلة التي توفرت في سهل الغاب بعد استصلاحه.

إن موقع المدينة المركزي ضمن هذا السهل الخصب جعلها نقطة محورية لخدمة وإدارة التنمية الجديدة، مما يعكس رؤية حكومية لاستغلال إمكانات المنطقة الزراعية بشكل كامل. هذا النمط من التنمية يعكس كيف يمكن للمشاريع التنموية الكبرى، مثل مشاريع استصلاح الأراضي، أن تحدث تحولات هيكلية عميقة في الخارطة الإدارية والديموغرافية للمناطق، وتخلق مراكز حضرية جديدة ذات أهمية إقليمية، مؤكدة على الأهمية الاستراتيجية لسهل الغاب كقاعدة زراعية حيوية لسوريا.

II. جذور التاريخ وعمق الأصالة: مدينة السقيلبية عبر العصور

يُعد تاريخ مدينة السقيلبية شاهداً على عراقة استيطانها وأهميتها الاستراتيجية عبر العصور. يعود أصل تسمية “السقيلبية” إلى اللغة الآرامية القديمة، حيث تعني “المقاوم، المواجه، المقابل، العنيد”. هذه التسمية ليست مجرد تعريف جغرافي، بل تحمل دلالات عميقة عن طبيعة المكان وأهله. يُفسر هذا المعنى من خلال طبيعة موقع مدينة السقيلبية ودورها العسكري الهام بالنسبة لحاضرة أفاميا القديمة، إذ كانت تشكل موقعاً دفاعياً متقدماً يواجه ويتصدى للغارات التي تستهدف أفاميا من جهة الجنوب. يرجح بعض الدارسين أن مدينة السقيلبية هي نفسها سلوقوبيلوس (SELEUCOBELOS) التي أسسها السلوقيون بقيادة سلوقوس نيكاتور (312/280 ق.م.)، أحد قادة الإسكندر المقدوني، مما يضيف بعداً هلنستياً غنياً لتاريخها.  

إن تاريخ مدينة السقيلبية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدينة أفاميا القديمة، التي ازدهرت بالتوازي معها وتقع شمالها. كان هذا الارتباط يعكس دورها التكاملي مع إحدى أهم المدن الأثرية في سوريا. أفاميا، التي تبعد حوالي 60 كيلومتراً شمال محافظة حماة، كانت العاصمة العسكرية للمملكة السلوقية، وتشرف على حوض نهر العاصي. هذا الارتباط يبرز الأهمية الدفاعية لـ مدينة السقيلبية في العصور القديمة، حيث كانت بمثابة حصن أمامي لأفاميا.

تُظهر سجلات المدينة مرونة استثنائية في مواجهة الكوارث؛ فقد هُجرت ودُمّرت عدة مرات ثم أُعيد إعمارها، مما يدل على قدرة أهلها على الصمود والتجدد. كان آخر هجران لها في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، تحديداً عام 1157م، بسبب زلزال مدمر أتى عليها. يعود إعمار مدينة السقيلبية الحديثة إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث تمركز السكان الأوائل فوق التل الأثري الذي بنيت عليه المدينة. وتذكر المصادر أن الهجرة الأولى للسقيلبية الحديثة جاءت في أواسط القرن التاسع عشر من قرية “عين الكروم”، وتبعتها هجرات مماثلة من “مرداش”، و”عناب”، و”دباش”، و”أرنبة”. هذا يشير إلى نمط استيطان يعتمد على التجمعات السكانية القريبة، مما ساهم في تشكيل النسيج الاجتماعي للمدينة.  

إن دلالة التسمية “المقاوم، العنيد” لا تصف فقط وظيفتها العسكرية التاريخية كموقع دفاعي لأفاميا، بل يبدو أنها تجسد روح المدينة وأهلها عبر العصور. إن قدرة مدينة السقيلبية على النهوض من الدمار والهجران المتكرر، كما حدث بعد زلزال 1157م، تعكس هذه السمة المتأصلة في هويتها. هذا الصمود التاريخي يمتد إلى الحاضر، حيث لا تزال المدينة تواجه تحديات خدمية وأمنية كبيرة وتظهر قدرة على التكيف والمبادرة. هذا يشير إلى أن أسماء الأماكن يمكن أن تكون أكثر من مجرد تعريف جغرافي؛ يمكن أن تكون تجسيداً لروح المكان وتاريخه، وتؤثر على تصور الذات للمجتمعات التي تسكنها، مما يغرس فيها ثقافة الصمود والتحدي.  

تؤكد الاكتشافات الأثرية على عمق تاريخ مدينة السقيلبية الاقتصادي. فقد عُثر في منطقة التل على أوانٍ فخارية متعددة الأشكال، بالإضافة إلى معاصر زيتون تعود للعهد الروماني، مما يدل على انتشار زراعة الزيتون وتصنيعه في تلك المنطقة منذ العصور القديمة. تل السقيلبية هو جانب مهم من المدينة القديمة، وأبعاد سطحه العلوي تبلغ بحدود 250×330م تقريباً (حوالي 70 ألف م2)، مما يجعله موقعاً أثرياً واسعاً ومهماً. وجود معاصر الزيتون، وهي منشآت تتطلب استثماراً وجهداً، يدل على أن زراعة الزيتون في مدينة السقيلبية لم تكن مجرد زراعة للاستهلاك الذاتي، بل كانت صناعة مزدهرة تتضمن مراحل معالجة وتصنيع. هذا يشير إلى اقتصاد زراعي-صناعي متقدم نسبياً في العصور الرومانية.

جودة القمح التي كانت تستخدم للبذر في مناطق واسعة من حماة تعزز هذه الفكرة، وتدل على خصوبة التربة والخبرة الزراعية العالية التي كانت سائدة. هذا يوضح أن مدينة السقيلبية كانت مركزاً اقتصادياً زراعياً مهماً منذ آلاف السنين، وأن هذه الأهمية ليست ظاهرة حديثة بل متجذرة بعمق في تاريخها، مما يفسر استمرار التركيز على الزراعة كركيزة أساسية لاقتصادها حتى اليوم.

III. جغرافيا مدينة السقيلبية وديموغرافيتها المتطورة

تتميز مدينة السقيلبية بموقع جغرافي فريد في ريف حماة الغربي. تقع المدينة على بعد 48 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدينة حماة. يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 220 متراً (720 قدم). تحدد إحداثياتها الجغرافية الدقيقة بـ 36.3958424 خط الطول و 35.3600693 اتساع ، وهي تقع في منطقة زمنية توقيت شرق أوروبا الرسمي.  

وُصفت تضاريس مدينة السقيلبية بشكل مميز من قبل المستشرق الألماني إدوار ساخاو في عام 1879، حيث قال عنها إنها “قرية تتوج مسطحاً دائرياً لتل معزول يرتفع في السهل والذي يبلغ ارتفاعه ربما (100-150) قدماً. وهذا التل يعطي انطباعاً وكأنها صنعته يد إنسان”. هذا الوصف يبرز طبيعتها الفريدة التي تجمع بين التضاريس المرتفعة والسهول الخصبة. القرية القديمة مبنية فوق هذا التل، ببيوتها الترابية المتكئة على بعضها، وأزقتها الضيقة جداً، مما يعكس نمط العمارة التقليدية في المنطقة. أما السهول المحيطة بـ مدينة السقيلبية، فقد وُصفت بأنها “حمراء خصبة، موحلة في الشتاء عطشانة في الصيف” ، مما يشير إلى طبيعة المناخ الموسمي وأهمية الأمطار للزراعة في هذه المنطقة.  

تُظهر الإحصائيات التاريخية والديموغرافية تطوراً ملحوظاً في أعداد سكان مدينة السقيلبية عبر الزمن. في عام 1879، ذكر المستشرق إدوار ساخاو أن المدينة تضم مائة بيت ومائتي بارودة بعدد الرجال القادرين على حمل السلاح، مما يشير إلى مجتمع صغير لكنه يتمتع بقدرة على الدفاع عن نفسه. في أوائل القرن الماضي، ذكر الباحث أحمد وصفي زكريا أن عدد سكان مدينة السقيلبية بلغ ألفي نسمة. وفي عام 1946، أظهر المسح الشامل للسكان أن العدد بلغ 2486 نسمة. شهد النصف الثاني من القرن العشرين تزايداً سكانياً كبيراً، حيث ارتفع العدد إلى 4663 نسمة في عام 1960، ووصل إلى 9215 نسمة في عام 1981.

في عام 1997، ذكر الأستاذ أديب قوندراق أن عدد السكان بلغ 9205 نسمة. ووفقاً لإحصاء المكتب المركزي للإحصاء لعام 2004، بلغ عدد سكانها 13,920 نسمة. أما آخر الإحصائيات الرسمية حتى تاريخ 31/12/2008، فقد بلغت 16562 نسمة، وتشمل هذه الأعداد سكان مدينة السقيلبية ومزرعتي تل صياح وتل الغار الملحقتين إدارياً. وتشير التقديرات الحديثة لعامي 2024 و 2025 إلى أن عدد السكان يتراوح بين حوالي 18 ألف نسمة و 24-25 ألف نسمة ، مما يدل على استمرار النمو أو استقرار نسبي رغم الظروف الراهنة.  

جدول: تطور عدد سكان مدينة السقيلبية (1879-2025)

السنةعدد السكان التقريبيالمصدر
1879~200 رجل قادر على حمل السلاح (تقدير 100 بيت)إدوار ساخاو  
أوائل القرن 202,000 نسمةأحمد وصفي زكريا  
19462,486 نسمةمسح المختار  
19604,663 نسمةكتاب “محافظة حماة”  
19819,215 نسمةكتاب “محافظة حماة”  
19979,205 نسمةأديب قوندراق  
200413,920 نسمةالمكتب المركزي للإحصاء  
200816,562 نسمةسجلات رسمية  
2024/2025~18,000 – 25,000 نسمةتقديرات حديثة  

يُعد غالبية السكان في مدينة السقيلبية مسيحيين ، وهي ذات غالبية سريانية ، مما يمنحها طابعاً ثقافياً ودينياً مميزاً في المنطقة. كما شهدت المدينة تاريخاً من التعايش مع جاليات أخرى، حيث استقرت فيها عدد من الأسر الأرمنية المهاجرة بعد المذابح التاريخية. وقد أظهر أهل السقيلبية تعاطفاً كبيراً، حيث “فتحوا بيوتهم للأرتال الأرمنية المنهكة، وقدموا لهم الطعام والكساء والمأوى” ، مما يعكس قيم التكافل الإنساني المتأصلة في المجتمع.  

إن النمو الديموغرافي السريع الذي شهدته مدينة السقيلبية في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تضاعف عدد سكانها عدة مرات، يشير إلى تحولها إلى مركز جذب إقليمي. هذا النمو، المدفوع بالفرص الاقتصادية والإدارية التي أوجدها مشروع سهل الغاب، يضع ضغطاً هائلاً على البنية التحتية والخدمات الأساسية. يمكن أن يفسر هذا الضغط بعض التحديات الخدمية المذكورة لاحقاً، مثل مشاكل المياه والكهرباء وتفشي الأمراض ، حيث قد لا تكون الخدمات قد واكبت وتيرة النمو السكاني. هذا النمط يعكس التغيرات الديموغرافية والاقتصادية الأوسع في سوريا، حيث أدت مشاريع التنمية الكبرى إلى تحولات سكانية من المناطق الريفية إلى المراكز الإدارية الجديدة، مما أثر على التخطيط العمراني والخدمي، وأسهم في ظهور تحديات حضرية جديدة.  

بالإضافة إلى ذلك، فإن التنوع الديموغرافي والتعايش التاريخي في مدينة السقيلبية يُعد سمة بارزة. وجود غالبية مسيحية، واستقبال اللاجئين الأرمن، بالإضافة إلى العلاقات الجيدة مع القرى المجاورة ذات الأغلبية المسلمة ، يشير إلى تاريخ طويل من التعايش والتعددية الثقافية والدينية. هذا التنوع يمثل قوة للمدينة ومثالاً للانسجام الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا النسيج يمكن أن يصبح عرضة للتوترات الطائفية في أوقات الأزمات، كما يتضح من حوادث حرق شجرة الميلاد والكتابات الطائفية الأخيرة. تبرز مدينة السقيلبية كنموذج مصغر للنسيج الاجتماعي المتنوع في سوريا. إن قدرتها على الحفاظ على هذا التنوع والتعايش، رغم التحديات، أمر حيوي لمستقبل البلاد، ويستدعي جهوداً مستمرة لتعزيز التفاهم والحوار بين المكونات المختلفة، خاصة في أوقات الاضطراب.

IV. نبض الحياة: اقتصاد وزراعة مدينة السقيلبية

لطالما كانت مدينة السقيلبية مركزاً حيوياً للنشاط الزراعي والاقتصادي، تاريخياً وحديثاً. تشير الاكتشافات الأثرية إلى أن المدينة شهدت نشاطاً زراعياً وصناعياً مهماً منذ القدم، حيث عُثر على معاصر زيتون من العهد الروماني، مما يدل على انتشار زراعة الزيتون في تلك المنطقة منذ العصور القديمة. كما اشتهرت حنطة مدينة السقيلبية بجودتها العالية، وكانت تستخدم للبذر في معظم ديار حماة، مما يؤكد على خصوبة أراضيها وأهميتها الزراعية.  

في العصر الحديث، تشهد مناطق سهل الغاب ومنطقة السقيلبية توجهاً كبيراً نحو زراعة الفستق الحلبي، الذي يُعد مورداً اقتصادياً هاماً للمزارعين ومصدراً جيداً للدخل. هذا التوجه يعكس سعياً حثيثاً لتنويع المحاصيل الزراعية وتعزيز مصادر الرزق في ظل الظروف الاقتصادية المتغيرة. إضافة إلى ذلك، أصبح البطيخ الأحمر من الزراعات التكثيفية البديلة في عدد من مناطق ريف حماة الغربي، ويشكل مصدر دخل للعديد من الأسر.  

تُدعم هذه التوجهات الزراعية الحديثة بمشاريع تنموية تهدف إلى تعزيز الاقتصاد المحلي. في إطار جهود تعزيز التنمية الريفية وتمكين المرأة اقتصادياً، افتتحت الهيئة العامة لإدارة وتطوير الغاب بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وحدة تصنيع غذائي جديدة في مدينة السقيلبية. تهدف هذه الوحدة إلى توفير فرص عمل لـ 25 سيدة من السقيلبية والمناطق المجاورة، مما يسهم في تحسين الواقع المعيشي للنساء من خلال توفير مصدر دخل مستدام ويعزز الاقتصاد المحلي. ستقوم الوحدة بإنتاج مجموعة متنوعة من المواد الغذائية باستخدام الموارد المحلية وبجودة عالية، مما يلبي احتياجات السوق ويدعم الإنتاج الزراعي بتحويل الفائض إلى منتجات مصنعة يمكن الاستفادة منها في غير مواسمها، والاستفادة من الأسعار.  

يُعد سهل الغاب عنصراً محورياً في الاقتصاد الزراعي لـ مدينة السقيلبية. تقع المدينة في سهل الغاب وعلى أطرافه ، مما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من هذا الحوض الزراعي الخصب. يتمتع سهل الغاب بموقع جغرافي فريد، ومناخ معتدل، وتربة خصبة جعلت منه مركزاً للزراعة منذ العصور الرومانية. يعمل معظم سكان سهل الغاب بالزراعة وتربية المواشي، مما يؤكد على الطابع الزراعي للمنطقة المحيطة بـ مدينة السقيلبية. يمر نهر العاصي بالسهل ويوفر سد قسطون قسماً من مياه الري، مما يدعم الزراعة المروية ويزيد من إنتاجية الأراضي. كان لتجفيف سهل الغاب واستصلاحه بعد عام 1960 أثر كبير في التطور العمراني والاقتصادي لـ مدينة السقيلبية، حيث فتح آفاقاً جديدة للزراعة والتنمية.  

إن التحول في الأنماط الزراعية، من المحاصيل التقليدية إلى الفستق الحلبي والبطيخ الأحمر، يشير إلى استراتيجية واعية من المزارعين في مدينة السقيلبية لتنويع مصادر الدخل وزيادته. هذا التغيير قد يكون مدفوعاً بتغيرات في السوق، أو الظروف المناخية، أو الرغبة في محاصيل ذات قيمة اقتصادية أعلى ومردود أفضل. دعم وحدة التصنيع الغذائي لهذا التوجه من خلال معالجة الفائض الزراعي يغلق الحلقة الاقتصادية، مما يقلل الهدر ويزيد القيمة المضافة للمنتجات الزراعية المحلية.

هذا التحول يعكس مرونة القطاع الزراعي في مدينة السقيلبية وقدرته على التكيف مع التحديات الاقتصادية، ويسلط الضوء على أهمية البحث عن محاصيل بديلة واستراتيجيات تصنيعية لتعزيز الأمن الغذائي والدخل المحلي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها سوريا.

علاوة على ذلك، يمثل التمكين الاقتصادي للمرأة ركيزة أساسية للتنمية المحلية في مدينة السقيلبية. التركيز على توفير فرص عمل للنساء في وحدة التصنيع الغذائي ليس مجرد دعم اقتصادي فردي، بل هو استثمار في التنمية المجتمعية الشاملة. تمكين المرأة اقتصادياً يساهم في تعزيز استقرار الأسر، ورفع مستوى المعيشة، وقد يؤدي إلى تحسين مؤشرات التنمية الاجتماعية في مدينة السقيلبية بشكل عام، مثل التعليم والصحة للأطفال.

كما أنه يعزز دور المرأة في اتخاذ القرار داخل الأسرة والمجتمع. هذا المشروع يمثل نموذجاً للتنمية المستدامة التي تركز على الموارد المحلية وتشرك الفئات المهمشة، مما يعزز الصمود المجتمعي في ظل التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه سوريا، ويبرز الدور المحوري للمرأة في إعادة بناء المجتمعات المتضررة.

V. ملامح ثقافية وتراثية من مدينة السقيلبية

تزخر مدينة السقيلبية بتراث ثقافي غني يعكس تاريخها العريق وتنوعها الديموغرافي. تُعد الاحتفالات الثقافية جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمدينة. فقد احتفلت مدينة السقيلبية باليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية في 18 مايو 2022، وذلك من خلال كرنفال ضخم شارك فيه شبان وشابات المدينة بارتداء ثياب تمثل ثقافات مختلفة محلية ودولية. هذا يعكس انفتاح المدينة وتقديرها للتنوع الثقافي، ورغبتها في إبراز هويتها المتعددة.

نظم هذا الكرنفال مركز التربية الدينية في مدينة السقيلبية بالتعاون مع مركز حلم، وحضره عدد من الآباء الكهنة وإداريي المركز وجمع غفير من الأهالي، مما يدل على المشاركة المجتمعية الواسعة والدعم المؤسسي لهذه الفعاليات. كما أقام مجلس مدينة السقيلبية احتفالاً فنياً تراثياً كبيراً جسد تراث منطقة الغاب وفلكلورها الشعبي في إطار مهرجان ربيع حماة الرابع عشر ، مما يربط المدينة بالهوية الثقافية الأوسع للمنطقة.  

يقدم الفلكلور الشعبي والتراث المحلي لـ مدينة السقيلبية لمحات حية عن الحياة الاجتماعية في الماضي. وصف المستشرق الألماني إدوار ساخاو عرسًا حضره في مدينة السقيلبية عام 1879، مشيراً إلى رقص الشبان والصبايا وغنائهم في ساحة الدار الموحلة تحت ضوء القمر. هذا الوصف يقدم لمحة حية عن الحياة الاجتماعية والفلكلور الشعبي في المدينة قبل أكثر من قرن، ويبرز الجانب الاحتفالي والبهيج في حياة أهلها.  

كما قدم الرحالة والأدباء انطباعات قيمة عن مدينة السقيلبية، تبرز سماتها الجغرافية والإنسانية. المستشرق الألماني إدوار ساخاو، في زيارته عام 1879، وصفها بأنها “قرية تتوج مسطحاً دائرياً لتل معزول يرتفع في السهل… وهذا التل يعطي انطباعاً وكأنها صنعته يد إنسان” ، مما يبرز سماتها الجغرافية المميزة.

أما الأديب شريف الراس، في كتابه “للضاحكين فقط” عام 1969، مسترجعاً ذكرياته عن تدريسه في مدينة السقيلبية سنة 1950، فقد قدم وصفاً شاعرياً للمدينة، متحدثاً عن سهولها “الحمراء الخصبة، الموحلة في الشتاء العطشانة في الصيف”، وبيوتها “الترابية المتكئة على بعضها، بأزقتها الضيقة جداً، بعتمتها الليلة، بالصمت الأسود الذي يلفها”. هذه الأوصاف الأدبية تمنح بعداً إنسانياً وجمالياً للمدينة، وتوثق جوانب من حياتها اليومية في منتصف القرن الماضي.  

إن التعبير الثقافي في مدينة السقيلبية يمثل آلية مهمة للحفاظ على الهوية والصمود. فالاحتفالات بالتنوع الثقافي والفعاليات الفنية التراثية، والتي تتم بمشاركة مجتمعية واسعة ودعم من مراكز دينية وثقافية ، تحدث في سياق تحديات أمنية واجتماعية كبيرة تواجه المدينة، مثل حرق شجرة الميلاد والكتابات الطائفية. في ظل هذه الظروف الصعبة والاضطرابات التي تمر بها سوريا، تصبح الأنشطة الثقافية والتراثية وسيلة مهمة للحفاظ على الهوية الجماعية وتعزيز الروابط المجتمعية.

الاحتفال بالتنوع الثقافي يعكس رغبة في إبراز الصورة الإيجابية للمدينة كمركز للتعايش، وربما يكون شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية ضد محاولات التفرقة وزعزعة الاستقرار. هذه الفعاليات توفر مساحة للبهجة والتعبير، مما يساهم في دعم الصحة النفسية للمجتمع في أوقات الأزمات. هذا يبرز كيف يمكن للثقافة والفن أن يكونا أدوات حيوية للصمود والمرونة المجتمعية، وليست مجرد ترفيه، بل ضرورة للحفاظ على النسيج الاجتماعي والمعنويات في أوقات الأزمات، وتأكيداً على الهوية في وجه التحديات.  

VI. البنية التحتية والخدمات في مدينة السقيلبية

شهدت مدينة السقيلبية تطوراً عمرانياً وخدمياً ملحوظاً، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. بدأ التوسع العمراني للمدينة بشكل كبير بعد عام 1950، وتحديداً بعد عام 1960، وكان لتجفيف سهل الغاب واستصلاحه الأثر الأكبر في هذا التطور. هذا التوسع يعكس النمو السكاني والاقتصادي الذي شهدته المنطقة. من العلامات الفارقة في تطور الخدمات الأساسية، دخول الكهرباء إلى مدينة السقيلبية في عام 1965.  

لضمان التخطيط العمراني المنظم، صدر أول مخطط تنظيمي للبلدة بتاريخ 12/2/1967، وقد تم تعديله وتوسيعه عدة مرات، حيث بلغت المساحة المشمولة بالمخطط التنظيمي لـ مدينة السقيلبية 450 هكتاراً. تقسم مدينة السقيلبية حالياً إلى ستة أحياء رئيسية: حي التل، حي السوق، حي سهم البيدر، حي السلطاني (الحي الغربي)، حي العبرة، ومنطقة التوسع. هذا التقسيم يعكس نموها وتوسعها المستمر. تُعتبر المدينة مخدّمة بالخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، والماء والكهرباء، وشبكة الصرف الصحي، والشوارع المعبدة.  

يقوم مجلس مدينة السقيلبية بجهود مكثفة في تنفيذ أعمال صيانة وإعادة تأهيل البنى التحتية في مواقع مختلفة من المدينة. تشمل هذه الأعمال ترميم الحفريات ومد طبقات الإسفلت في الشوارع الرئيسية والفرعية. كما تم معالجة حالات الاختناقات في شبكة الصرف الصحي بحي العبرة ، مما يشير إلى استجابة المجلس للمشاكل الخدمية التي تواجه السكان. وفيما يتعلق بالإنارة، يتم تأهيل أجهزة الإنارة وإنارة طريق المشفى من شارع النهضة باتجاه الأوتوستراد، لتحسين السلامة العامة وتسهيل حركة المرور ليلاً.  

بالإضافة إلى ذلك، يتابع المجلس أعمال التنظيف وإزالة الأنقاض والأتربة من الشوارع الرئيسية والفرعية، مع الاهتمام بأعمال النظافة وترحيل 25 طناً من النفايات يومياً إلى مكب القمامة جنوبي المدينة. وقد تم توزيع 120 حاوية قمامة في مواقع مختلفة من المدينة لتعزيز النظافة العامة. وفي إطار جهود مكافحة الحشرات الضارة، يتم تنفيذ حملات رش المبيدات في جميع أحياء المدينة، بما في ذلك الرش الوقائي والضبابي والرذاذي بشكل يومي طوال فصل الصيف، بهدف القضاء على الحشرات الضارة والحد من انتشار الأمراض.  

في مبادرة لدعم المنتجات الزراعية والغذائية المحلية، تم تحديد موقع بجانب دائرة النقل الفرعية لإقامة سوق شعبي. تبلغ مساحة هذا الموقع 1000 متر مربع، وسيتم تجهيزه بتخطيط وتحديد ممرات للمشاة لتسهيل الحركة. وقد دعا المجلس جميع الجهات والفعاليات الزراعية للتسجيل لعرض منتجاتها مجاناً وبيعها مباشرة للمستهلكين بعيداً عن الوسطاء، مما يدعم المزارعين ويوفر المنتجات بأسعار مناسبة للمستهلكين.  

على الرغم من الجهود المستمرة لمجلس مدينة السقيلبية في صيانة البنية التحتية وتحسين الخدمات ، إلا أن المدينة لا تزال تواجه تحديات كبيرة. هناك شكاوى من تفشي اللشمانيا بسبب مكب قمامة غير صحي على أطراف المدينة ، بالإضافة إلى مشاكل نقص المياه والكهرباء الشديدة. هذا التناقض يشير إلى أن الجهود المحلية، وإن كانت مهمة وضرورية، قد لا تكون كافية لمواجهة حجم التحديات في البنية التحتية والخدمات الأساسية. قد تكون المشاكل متجذرة في نقص التمويل الكافي، أو ضعف البنية التحتية الأساسية على مستوى أوسع (المحافظة أو الدولة)، أو تزايد الضغط السكاني الذي يفوق قدرة الخدمات على المواكبة.

مكب القمامة غير الصحي يشير إلى فجوة بين جهود النظافة اليومية وإدارة النفايات على المدى الطويل، مما يؤثر على الصحة العامة. تسلط هذه التحديات الضوء على الحاجة الماسة إلى دعم أكبر على المستويين الوطني والدولي لتمكين المجالس المحلية من تقديم خدمات مستدامة وفعالة، خاصة في مناطق مثل مدينة السقيلبية التي تأثرت بالصراع وتستقبل نازحين، مما يتطلب استثمارات ضخمة تتجاوز القدرات المحلية.

VII. تحديات وصمود: مدينة السقيلبية في ظل الظروف الراهنة

تواجه مدينة السقيلبية، كغيرها من المدن السورية، تحديات جسيمة في ظل الظروف الراهنة، لكنها تظل نموذجاً للصمود والمرونة. شهدت المدينة أحداثاً أمنية متوترة، منها اندلاع حريق حراجي في قرية “نبع الطيب” التابعة لناحية مركز السقيلبية. كما نفت إدارة السقيلبية مزاعم التهجير والاستيلاء على ممتلكات المدنيين بريف حماة، مما يشير إلى وجود شائعات وتوترات مجتمعية قد تؤثر على الاستقرار.  

إن قدرة مدينة السقيلبية على استيعاب النازحين وتقديم الدعم لهم، رغم التحديات التي تواجهها هي نفسها، تبرز روح التكافل والصمود المجتمعي. هذه القدرة على الصمود في وجه التحديات الكبرى، سواء كانت أمنية أو خدمية، هي سمة مميزة للمدينة. ومع ذلك، فإن الوضع الإنساني لا يزال يتطلب اهتماماً كبيراً، خاصة فيما يتعلق بالخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء. جهود إعادة الإعمار، مثل مشروع قطر الخيرية لإعادة إعمار 1500 منزل في ريف حماة ، تشير إلى بداية التعافي، لكنها تظل جزءاً من جهد أكبر مطلوب لإعادة بناء البنية التحتية والخدمات بشكل كامل.  

الخاتمة

تُعد مدينة السقيلبية بريف حماة الغربي مثالاً حياً على المدن السورية التي تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً من الصمود والتجدد، وتواجه في الوقت ذاته تحديات معاصرة تتطلب مرونة استثنائية. من جذورها الآرامية العميقة وتسميتها التي تعني “المقاوم العنيد”، إلى دورها كمركز إداري واقتصادي في سهل الغاب الخصب، أظهرت مدينة السقيلبية قدرة فريدة على التكيف والنهوض من الدمار المتكرر.

لقد كشف التحليل عن أن التطور الإداري السريع للمدينة وارتباطها الوثيق بمشروع استصلاح سهل الغاب، يعكسان رؤية استراتيجية لتحويلها إلى مركز جذب إقليمي، مما أدى إلى نمو ديموغرافي كبير وضع ضغوطاً متزايدة على البنية التحتية والخدمات. كما أبرزت الدراسة التنوع الديموغرافي للمدينة، حيث تشكل الغالبية المسيحية السريانية نسيجاً مجتمعياً غنياً، مع تاريخ من التعايش الذي يجب صونه في وجه التحديات الطائفية الأخيرة.

على الصعيد الاقتصادي، تواصل مدينة السقيلبية الاعتماد على الزراعة، مع تحول ملحوظ نحو محاصيل ذات قيمة اقتصادية أعلى مثل الفستق الحلبي والبطيخ الأحمر، مدعومة بمشاريع تمكين اقتصادي للمرأة. هذه التحولات تعكس استراتيجية واعية لتعزيز الدخل المحلي والصمود الاقتصادي. ثقافياً، تظل المدينة نابضة بالحياة، حيث تُعد الاحتفالات الثقافية والتراثية وسيلة مهمة للحفاظ على الهوية وتعزيز الروابط المجتمعية في أوقات الأزمات.

ومع كل هذا الصمود، لا تزال مدينة السقيلبية تواجه تحديات خدمية وبيئية حادة، مثل مشاكل المياه والصرف الصحي وتفشي الأمراض، مما يشير إلى أن الجهود المحلية، وإن كانت قيمة، تحتاج إلى دعم أكبر على المستويين الوطني والدولي. كما أن الأحداث الأمنية الأخيرة، بما في ذلك حرق شجرة الميلاد والكتابات الطائفية، تسلط الضوء على ضرورة تعزيز الأمن الاجتماعي والحفاظ على النسيج المتنوع للمدينة.

في الختام، تبقى مدينة السقيلبية رمزاً للقدرة على البقاء والازدهار في وجه الشدائد. إن فهم تاريخها وديموغرافيتها واقتصادها وتحدياتها الراهنة يوفر رؤية شاملة لمدينة تسعى جاهدة للحفاظ على هويتها وتراثها، بينما تتطلع إلى مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى