الرأي العام

النظام اللامركزي: وصفة لتفتيت سوريا وتكريس الانقسام الطائفي

تحليل أكاديمي للمخاطر الوجودية التي يفرضها النموذج اللامركزي على وحدة الدولة السورية ومستقبلهاة مقارنة متعمقة للنماذج التنظيمية والتكنولوجية الحديثة

في خضم النقاشات المحتدمة حول مستقبل سوريا ما بعد هروب الأسد، يبرز مصطلح “النظام اللامركزي” كحل مقترح لإدارة التنوع وإعادة بناء الدولة. لكن هذا المقترح، عند تحليله في السياق السوري تحديداً، يكشف عن كونه يحمل في طياته بذور فناء الدولة السورية الموحدة وتكريس حالة التشظي إلى الأبد.

مقدمة

يُطرح مفهوم الحكم اللامركزي (Decentralization) بأشكاله المختلفة، سواء كان فيدرالية سياسية (Political Federalism) أو كونفدرالية أو حتى لامركزية إدارية واسعة الصلاحيات، كأحد الحلول المفترضة لمعضلة الحكم في سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد. يستند هذا الطرح نظرياً إلى فكرة توزيع السلطة وتقريبها من المجتمعات المحلية، مما قد يساهم في تمثيل أفضل للتنوعات الإثنية والطائفية والدينية في البلاد. ومع ذلك، فإن تطبيق هذا النموذج على الواقع السوري المعقد والهش ينذر بعواقب وخيمة، ويحول ما يُفترض أن يكون حلاً إلى مشكلة وجودية تهدد بقاء الكيان السوري ذاته.

إن تحليل المخاطر الكامنة في تبني النظام اللامركزي يكشف أنه ليس مجرد خيار سياسي غير موفق، بل هو بمثابة وصفة كارثية لشرعنة الانقسام، وتعميق الجروح الطائفية، وفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية، وتفكيك الدولة الوطنية بشكل لا رجعة فيه. إن أي حديث عن النظام اللامركزي في سوريا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار حالة السيولة الأمنية والسياسية، والولاءات المتقاطعة، والمشاريع السياسية المتناقضة التي تحملها مختلف الأطراف الفاعلة على الأرض، والتي ستستغل حتماً أي شكل من أشكال النظام اللامركزي لتحقيق أهدافها الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العليا.

النظام اللامركزي وتعميق الشرخ الطائفي والعرقي

إن أحد أخطر جوانب تطبيق النظام اللامركزي في سوريا يكمن في قدرته على تحويل الانقسامات الطائفية والعرقية من حالة اجتماعية وسياسية كامنة أو متفجرة أحياناً، إلى حقيقة دستورية وقانونية راسخة. فبدلاً من أن يعمل النظام السياسي الجديد على صهر الهويات الفرعية ضمن هوية وطنية سورية جامعة، فإن النظام اللامركزي سيقوم بالعكس تماماً؛ فهو سيرسم حدوداً إدارية وسياسية بناءً على خطوط التماس الديموغرافية القائمة. هذا يعني أن كل منطقة ذات أغلبية طائفية أو عرقية معينة ستتحول إلى كانتون شبه مستقل، تترسخ فيه سلطة هذه الأغلبية وتُهمش فيه الأقليات بشكل ممنهج. إن النظام اللامركزي في هذا السياق لن يكون أداة لتقاسم السلطة، بل سيصبح أداة لتقاسم الجغرافيا وتكريس الفصل الديموغرافي.

في ظل النظام اللامركزي، ستتحول كل منطقة إلى ما يشبه “دولة طائفية مصغرة”، حيث يتم التحكم في مؤسساتها المحلية، وقوات أمنها، ومناهجها التعليمية، واقتصادها من قبل النخبة المهيمنة من طائفة أو عرق معين. هذا الوضع سيؤدي حتماً إلى خلق شعور بالظلم والاضطهاد لدى الأقليات الموجودة داخل هذه المناطق، مما يغذي دورات جديدة من العنف والصراع الداخلي.

على سبيل المثال، في منطقة ذات أغلبية كردية، قد يشعر العرب والآشوريون بالتهميش، وفي منطقة ذات أغلبية علوية، قد يواجه السنة نفس المصير، وهكذا. إن النظام اللامركزي سيمنح هذه الممارسات غطاءً قانونياً، مما يجعل من المستحيل على أي سلطة مركزية مستقبلية التدخل لحماية حقوق المواطنة المتساوية لجميع السوريين. بدلاً من بناء دولة المواطنة، فإننا سنكون بصدد بناء “اتحاد طوائف”، وهو نموذج أثبت فشله الذريع في دول أخرى مثل لبنان والعراق، حيث أدى إلى شلل الدولة الدائم وتفشي الفساد وتعميق الانقسامات. إن الحديث عن النظام اللامركزي كحل هو تجاهل تام لطبيعة الصراع في سوريا، والذي تم تطييفه بشكل عميق على مدى العقد الماضي، وأي نظام يعترف بهذه الانقسامات ويمنحها شرعية دستورية هو بمثابة صب الزيت على النار.

قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والمشروع الانفصالي تحت غطاء النظام اللامركزي

تمثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وذراعه العسكري وحدات حماية الشعب (YPG)، أحد أبرز الأمثلة على كيفية استغلال فكرة النظام اللامركزي كحصان طروادة لتحقيق مشروع انفصالي طويل الأمد. إن ما تسميه “قسد” بـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” والمبني على أيديولوجية “الكونفدرالية الديمقراطية”، ليس في جوهره إلا تطبيقاً عملياً لمشروع يهدف إلى خلق كيان سياسي وعسكري واقتصادي مستقل بحكم الأمر الواقع. وإن القبول بأي صيغة من صيغ النظام اللامركزي الواسع في سوريا المستقبلية سيعني منح الشرعية الدستورية لهذا الكيان، وتحويله من “إدارة ذاتية” مؤقتة إلى إقليم فيدرالي دائم يتمتع بصلاحيات شبه دولة.

اقرأ أيضاً:  إنعاش الاقتصاد السوري بعد سقوط الأسد: رؤية إستراتيجية

إن خطورة تبني النظام اللامركزي في التعامل مع ملف “قسد” تكمن في أنه يوفر الإطار القانوني المثالي لترسيخ خطوات الانفصال التدريجي. سيسمح النظام اللامركزي لهذه المنطقة بالاحتفاظ بقواتها العسكرية الخاصة (قسد)، وإنشاء نظام قضائي مستقل، والتحكم المطلق في الموارد الاقتصادية الهائلة في المنطقة، بما في ذلك النفط والغاز والمياه والأراضي الزراعية الأكثر خصوبة في سوريا. كما سيمنحها الحق في إدارة علاقاتها الخارجية بشكل شبه مستقل، وعقد اتفاقيات مع دول ومنظمات دولية، وهو ما تفعله عملياً الآن ولكن بدون غطاء دستوري.

إن النظام اللامركزي هنا لن يكون أداة لإعادة دمج هذه المنطقة في النسيج الوطني السوري، بل سيكون بمثابة شهادة وفاة للسيادة السورية على ربع مساحة البلاد وأهم مواردها. سيتحول النظام اللامركزي إلى مجرد مرحلة انتقالية دستورية نحو إعلان الاستقلال التام في اللحظة الإقليمية أو الدولية المناسبة، تاركاً بقية سوريا دولة مقسمة ومستنزفة ومحرومة من أهم مقوماتها الاقتصادية والإستراتيجية. وإن أي تفاوض مستقبلي يجب أن يهدف إلى حل الميليشيات وإعادة دمج الإدارة والمؤسسات ضمن الدولة السورية الموحدة، وليس شرعنة الأمر الواقع الانفصالي عبر بوابة النظام اللامركزي الخادعة.

مخاطر قيام دويلات طائفية في السويداء والساحل

لا يقتصر خطر التفتيت الذي يحمله النظام اللامركزي على الشمال الشرقي السوري، بل يمتد ليشمل مناطق أخرى ذات خصوصية ديموغرافية، أبرزها محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، ومنطقة الساحل السوري ذات الكثافة السكانية العلوية. في ظل غياب سلطة مركزية قوية بعد سقوط النظام، وفي حال تم تبني النظام اللامركزي كإطار للدولة الجديدة، فإن هذه المناطق مرشحة بقوة للتحول إلى دويلات طائفية بحكم الأمر الواقع، وقد أعلن ذلك مؤيدو الهجري وطالبوا بالاستقلال. إن فكرة النظام اللامركزي ستغذي النزعات الانعزالية لدى بعض النخب المحلية التي قد ترى في الحكم الذاتي فرصة لحماية “خصوصية” طائفتها وتعزيز نفوذها المحلي.

في السويداء، نشأت بالفعل فصائل مسلحة محلية تحت شعار “حماية المنطقة”، وهذه الفصائل تحولت بسهولة إلى ميليشيا خاصة بما يسمى “إقليم السويداء”. سيتم استغلال هذا النموذج لرفض أي وجود لمؤسسات الدولة المركزية، سواء كانت عسكرية أو أمنية، بحجة الحفاظ على “الاستقرار المحلي”. وبمرور الوقت، سيعمق هذا الانعزال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وستبدأ المنطقة في تطوير هوية سياسية منفصلة عن الهوية الوطنية السورية. أما في الساحل، فإن المخاوف من الانتقام أو التهميش في سوريا ما بعد الأسد قد تدفع بالعديد من أبناء الطائفة العلوية إلى التمسك بفكرة إنشاء كيان خاص بهم كضمانة أمنية. يمكن أن يوفر النظام اللامركزي الإطار القانوني لهذا المشروع، حيث يتم تحويل المنطقة الساحلية إلى إقليم يتمتع بحكم ذاتي واسع، مع جيش محلي وأمن داخلي خاص به. هذا السيناريو لن يؤدي فقط إلى فصل الساحل عن عمقه السوري، بل سيخلق بؤرة توتر دائمة، وبكل تأكيد سوف يصبح ملاذاً لفلول النظام السابق، مما يهدد استقرار سوريا بأكملها. إن النظام اللامركزي في هاتين الحالتين سيكون بمثابة أداة لترسيخ الخوف والانعزال الطائفي بدلاً من بناء الثقة والاندماج الوطني.

اقرأ أيضاً:  تحليل إستراتيجي: العلاقات الأمريكية السورية في مرحلة جديدة

التداعيات الاقتصادية الكارثية للنظام اللامركزي

بعيداً عن المخاطر السياسية والأمنية، فإن تطبيق النظام اللامركزي في سوريا ينذر بانهيار اقتصادي شامل وتدمير أي فرصة حقيقية لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة. إن الدولة السورية، لكي تتمكن من النهوض من تحت ركام الحرب، تحتاج إلى سياسة اقتصادية ومالية ونقدية مركزية وموحدة، قادرة على حشد الموارد وتوجيهها بكفاءة نحو المشاريع الحيوية والبنية التحتية. كما أن النظام اللامركزي سيقوض هذه الإمكانية بشكل كامل، وسيخلق اقتصاداً مجزأً ومجموعة من “الجزر الاقتصادية” المتنافسة بدلاً من سوق وطنية واحدة ومتكاملة.

أما الأضرار الاقتصادية المباشرة لتبني النظام اللامركزي فيمكن تلخيصها في عدة نقاط كارثية، حيث إن أي نقاش حول النظام اللامركزي يجب أن يراعي هذه السلبيات القاتلة للاقتصاد:

  • الصراع على الموارد الطبيعية: سيؤدي النظام اللامركزي إلى صراع مفتوح بين الأقاليم المختلفة للسيطرة على الموارد الحيوية. الإقليم الشمالي الشرقي سيحتكر النفط والغاز والقمح، بينما قد تتحكم أقاليم أخرى في مصادر المياه أو الفوسفات أو المنافذ البحرية. هذا الوضع سيخلق حالة من الابتزاز المتبادل ويمنع الاستفادة من هذه الموارد على المستوى الوطني.
  • عقبات تجارية داخلية: كل إقليم في ظل النظام اللامركزي سيكون له الحرية في فرض ضرائبه ورسومه الجمركية الخاصة، مما سيخلق حواجز تجارية داخلية تعيق حركة البضائع ورؤوس الأموال والأيدي العاملة بين المناطق السورية المختلفة، ويقضي على مفهوم السوق الوطنية الموحدة.
  • غياب بيئة استثمارية جاذبة: لن يجرؤ أي مستثمر دولي جاد على ضخ أمواله في بلد مقسم إلى أقاليم لكل منها قوانينه وأنظمته الضريبية والقضائية المختلفة. هذا التعقيد القانوني وانعدام الاستقرار السياسي سيؤديان إلى هروب الاستثمار الذي تحتاجه سوريا بشدة لإعادة الإعمار.
  • فشل عملية إعادة الإعمار: ستصبح عملية إعادة الإعمار شبه مستحيلة في ظل النظام اللامركزي، حيث لا توجد سلطة مركزية قادرة على وضع خطة وطنية شاملة وتوزيع المشاريع بشكل عادل ومتوازن بين المناطق. ستتحول إعادة الإعمار إلى عملية فوضوية تعتمد على قدرة كل إقليم على جذب الدعم الخارجي، مما سيزيد من التفاوت التنموي بين المناطق.

النظام اللامركزي كبوابة للتدخلات الخارجية الدائمة

إن تفكيك السلطة المركزية عبر تطبيق النظام اللامركزي لن يؤدي فقط إلى صراعات داخلية، بل سيحول سوريا إلى ساحة مفتوحة للتنافس والتدخلات الإقليمية والدولية بشكل دائم ومؤسسي. الدولة المقسمة إلى أقاليم ضعيفة ومتنافسة هي فريسة سهلة للقوى الخارجية التي ستسعى إلى بناء مناطق نفوذ خاصة بها من خلال دعم هذا الإقليم أو ذاك. سيتحول النظام اللامركزي إلى غطاء شرعي لترسيخ وجود هذه القوى وتأثيرها على القرار الوطني السوري، مما يقضي على أي أمل في استعادة السيادة والاستقلال الكاملين.

سيصبح كل إقليم في ظل النظام اللامركزي مرتبطاً بشكل مباشر براعٍ خارجي يوفر له الدعم المالي والعسكري والسياسي، مقابل الولاء وتنفيذ أجنداته. يمكن تصور هذا المشهد الكارثي بسهولة، حيث يصبح الإقليم الشمالي الشرقي معتمداً كلياً على الدعم الأميركي، بينما قد تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في مناطق الشمال الغربي، وقد تبحث إيران عن موطئ قدم دائم في الساحل، وإسـ.ـرائيل في السويداء. هذا الارتباط العضوي بين الأقاليم والقوى الخارجية سيجعل من أي خلاف داخلي بسيط شأناً إقليمياً أو دولياً معقداً، وقد يؤدي إلى حروب بالوكالة (Proxy Wars) مدمرة على الأراضي السورية. إن خطورة النظام اللامركزي تتجلى في النقاط التالية:

  • التحالفات الإقليمية المتضاربة: ستسعى الأقاليم المختلفة إلى بناء تحالفات مع قوى إقليمية متنافسة (مثل تركيا، إيران، دول الخليج، إسـ.ـرائيل)، مما يحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين هذه الدول.
  • القواعد العسكرية الأجنبية: قد تبرم حكومات الأقاليم اتفاقيات تسمح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية دائمة على أراضيها كضمانة لأمنها، مما يكرس الاحتلال المقنع ويقوض السيادة الوطنية.
  • استنزاف الثروات الوطنية: ستقوم القوى الخارجية باستغلال موارد الأقاليم التي تدعمها من خلال عقود طويلة الأمد غير متكافئة، مما يحرم الشعب السوري من ثرواته.
  • شلل القرار الوطني: سيصبح من المستحيل على سوريا اتخاذ أي قرار سيادي موحد في السياسة الخارجية أو الدفاع، لأن كل قرار سيعتمد على توافق الأقاليم المرتبطة بجهات خارجية متناقضة المصالح. إن فكرة النظام اللامركزي هي دعوة مفتوحة لتجريد سوريا من سيادتها وتحويلها إلى مجرد تعبير جغرافي.
اقرأ أيضاً:  لماذا حضر الرئيس السوري أحمد الشرع توقيع مشروع بوابة دمشق؟

انهيار الهوية الوطنية الجامعة وتفكك النسيج الاجتماعي

إن الأثر الأخطر والأعمق لتبني النظام اللامركزي في سوريا هو أنه سيقوض بشكل منهجي أساس الهوية الوطنية السورية التي تشكلت عبر قرون من التاريخ المشترك والتفاعل الثقافي والاجتماعي. عندما يتم تقسيم الدولة إلى أقاليم على أسس طائفية أو عرقية أو جهوية، فإن الولاء سينتقل تدريجياً من الوطن “سوريا” إلى “الإقليم”. سيتم تعزيز الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وسيصبح الانتماء إلى الطائفة أو العرق أو المنطقة هو المحدد الأساسي لهوية الفرد. إن النظام اللامركزي، بطبيعته، يشجع على هذا التفكك الهوياتي.

سيتم تجسيد هذا التفكك في مناحي الحياة كافة. في التعليم، سيقوم كل إقليم بوضع مناهجه الخاصة التي تمجد تاريخه المحلي وأبطاله، وقد تتضمن روايات تاريخية متضاربة أو عدائية تجاه الأقاليم الأخرى، مما يزرع بذور الكراهية والانقسام في عقول الأجيال القادمة. في الإعلام، ستظهر وسائل إعلام محلية لكل إقليم، تخاطب جمهورها بلهجة ومصطلحات خاصة بها، وتركز على قضايا الإقليم فقط، مما يعمق الشعور بالاغتراب عن بقية أجزاء الوطن. حتى الرموز الوطنية، مثل العلم والنشيد الوطني، ستفقد قيمتها لصالح أعلام وأناشيد محلية خاصة بكل إقليم. إن النظام اللامركزي سيخلق مواطنين ينتمون إلى “إقليم الجزيرة” أو “إقليم السويداء” أو “إقليم الساحل” قبل أن ينتموا إلى سوريا. هذا التآكل التدريجي للهوية الوطنية سيجعل من إعادة توحيد البلاد في المستقبل مهمة مستحيلة، وسيحكم على سوريا بالتشظي الدائم. إن الحديث عن تطبيق النظام اللامركزي هو بمثابة التوقيع على شهادة وفاة الهوية السورية الجامعة التي كانت، على الرغم من كل التحديات، صمام الأمان الأخير لوحدة هذا البلد.

خاتمة

في ختام هذا التحليل، يتضح بجلاء أن النظام اللامركزي، على الرغم من جاذبيته النظرية كنموذج لإدارة التنوع، يمثل في الحالة السورية وصفة مؤكدة لكارثة وطنية شاملة. إنه ليس حلاً لمشاكل سوريا، بل هو تكريس لهذه المشاكل وتحويلها إلى واقع دستوري دائم. إن تبني النظام اللامركزي سيؤدي حتماً إلى تعميق الانقسامات الطائفية والعرقية، وسيشكل غطاءً شرعياً للمشاريع الانفصالية في الشمال الشرقي وفي السويداء، وسيشجع على قيام دويلات طائفية في السويداء والساحل، وسيدمر الاقتصاد الوطني، وسيفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية، وسيقضي على الهوية الوطنية السورية الجامعة.

إن مخاطر النظام اللامركزي وجودية وتهدد بقاء الكيان السوري الموحد. وإن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على أساس تقاسم الجغرافيا والثروات والنفوذ بين أمراء حرب وطوائف متناحرة. الطريق الوحيد لإنقاذ سوريا وضمان مستقبل أفضل لأجيالها القادمة يكمن في العمل على بناء دولة مركزية قوية وعادلة، دولة مواطنة حقيقية يتساوى فيها جميع السوريين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن طائفتهم أو عرقهم أو منطقتهم. إن رفض مشروع النظام اللامركزي ليس مجرد موقف سياسي، بل هو ضرورة وطنية للحفاظ على ما تبقى من سوريا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى