تراث لا مادي

صناعة ماء الورد السوري: كيف تتم وما أسرارها؟

ما الذي يميز طريقة التقطير التقليدية في هذه الحرفة العريقة؟

تحمل صناعة ماء الورد في سوريا إرثاً حضارياً امتد لقرون طويلة، وتحديداً في مناطق دمشق والغوطة الشرقية وحمص، التي اشتهرت بجودة إنتاجها وعبق رائحتها الأخاذة. إن هذه الحرفة اليدوية العريقة لم تكن مجرد صناعة تجارية، بل تراثاً ثقافياً منحوتاً في ذاكرة الأجيال السورية المتعاقبة.

ما هي صناعة ماء الورد السوري؟

صناعة ماء الورد تمثل واحدة من أعرق الحرف التقليدية التي توارثها السوريون أباً عن جد، وهي عملية استخلاص الزيوت العطرية والماء المقطر من بتلات الورد الطبيعي عبر التقطير بالبخار (Steam Distillation). لقد كانت هذه الصناعة ركيزة اقتصادية مهمة لكثير من القرى السورية، خاصة تلك المحيطة بالعاصمة دمشق والمعروفة بغوطتها الخضراء.

تختلف هذه الصناعة عن غيرها من المنتجات التجميلية الحديثة في كونها تعتمد على طرق تقليدية موروثة، دون استخدام المواد الكيميائية أو الإضافات الصناعية. فقد ظلت الأسر السورية تحتفظ بأسرار هذه المهنة وتنقلها بين الأجيال، محافظة على نقاء المنتج وجودته العالية التي جعلته مطلوباً في الأسواق العالمية.

لماذا تشتهر سوريا بصناعة ماء الورد؟

الموقع الجغرافي والمناخ المتوسطي لسوريا يوفران بيئة مثالية لزراعة الورد الجوري الدمشقي (Rosa Damascena)، الذي يُعَدُّ من أجود أنواع الورد المستخدمة في التقطير عالمياً. إن تربة الغوطة الدمشقية الغنية بالمعادن، ومياهها العذبة المتدفقة من نهر بردى، أسهمت في منح الورد السوري خصائص فريدة؛ إذ يحتوي على نسبة عالية من الزيوت العطرية مقارنة بأنواع أخرى.

تعود جذور هذه الصناعة إلى العصور الإسلامية الأولى، عندما كان الأطباء والعلماء العرب يستخدمون ماء الورد في الطب والعطور والطهي. بالإضافة إلى ذلك، فإن مدينة دمشق كانت محطة تجارية مهمة على طريق الحرير، مما سهّل انتشار هذا المنتج إلى مختلف أنحاء العالم. من ناحية أخرى، ارتبطت صناعة ماء الورد بالمناسبات الدينية والاجتماعية بين أفراد المجتمع السوري، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية.

كيف تتم عملية التقطير التقليدية؟

خطوات التقطير اليدوي

تبدأ رحلة صناعة ماء الورد مع طلوع الفجر في أيام شهري نيسان (أبريل) وأيار (مايو)، وهي فترة قطاف الورد المثالية؛ إذ تكون البتلات في أوج نضارتها وتركيز الزيوت العطرية فيها أعلى ما يمكن. أتذكر عندما زرت إحدى القرى في الغوطة الشرقية قبل سنوات، كيف كان المزارعون يتحركون بسرعة في الحقول قبل شروق الشمس، يقطفون الورد بعناية فائقة؛ إذ إن حرارة الشمس تُفقد البتلات جزءاً من زيوتها الثمينة.

اقرأ أيضاً:  الأزياء الشعبية في حماة: رحلة عبر التراث والثقافة

العملية التقليدية تسير وفق مراحل دقيقة ومحددة:

  • قطف الورد: يتم قطف البتلات يدوياً في الصباح الباكر، مع الحرص على عدم كسر الأوراق أو إتلافها.
  • التنقية والفرز: تُنقى البتلات من الشوائب والأوراق الخضراء والأجزاء الذابلة.
  • التحميل في القِدر النحاسي: توضع البتلات في قدر نحاسي كبير يُسمى “الكركة” مع كمية محددة من الماء.
  • الغليان والتقطير: يُسخن القدر على نار هادئة، فيتصاعد البخار المحمل بالزيوت العطرية عبر أنبوب نحاسي طويل.
  • التبريد والتكثيف: يمر البخار عبر وعاء التبريد المملوء بالماء البارد، فيتحول إلى سائل يُجمع في أوانٍ زجاجية.
  • الفصل والتعبئة: يُترك السائل ليستقر، فينفصل زيت الورد (العطر) عن ماء الورد، ويُعبأ كل منهما على حدة.

هذه الطريقة التقليدية تحافظ على النقاء الكامل للمنتج، وتمنحه رائحته المميزة التي لا يمكن تقليدها بالطرق الصناعية الحديثة. كما أن استخدام الأواني النحاسية ليس عبثاً؛ إذ يساعد النحاس في تعزيز جودة التقطير ويمنع تفاعلات كيميائية غير مرغوبة.

ما أنواع الورد المستخدمة في الصناعة؟

الورد الجوري الدمشقي يحتل المرتبة الأولى بلا منازع في صناعة ماء الورد السوري، وهو نوع فريد يتميز بلونه الوردي الفاتح وبتلاته الكثيفة ورائحته العطرة القوية. فما هي الميزات التي تجعله الخيار الأمثل؟ الإجابة تكمن في التركيب الكيميائي لزيوته العطرية، التي تحتوي على أكثر من 300 مركب عضوي، منها السيترونيلول (Citronellol) والجيرانيول (Geraniol) والنيرول (Nerol).

من جهة ثانية، يستخدم بعض المنتجين أنواعاً أخرى كالورد البلدي والورد الشامي، لكنها تعطي نتائج أقل جودة من حيث كثافة الرائحة وتركيز الزيوت. وبالتالي فإن سعر ماء الورد المستخلص من الورد الجوري يكون أعلى بكثير، مما يجعله علامة على الجودة الفائقة. الجدير بالذكر أن بعض المزارعين يفضلون زراعة أصناف هجينة حديثة تعطي إنتاجية أكبر، لكن العارفين يؤكدون أن الأصناف القديمة الأصيلة تظل الأفضل نكهة وعطراً.

ما الفوائد والاستخدامات المتنوعة لماء الورد؟

مجالات الاستعمال الواسعة

استخدامات ماء الورد السوري تتجاوز كونه مجرد عطر؛ إذ دخل في مختلف مناحي الحياة اليومية للسوريين وغيرهم من الشعوب. إن تعدد فوائده جعله منتجاً متعدد الأغراض، يصعب الاستغناء عنه في البيت السوري التقليدي.

اقرأ أيضاً:  حياكة البسط في حماة: تراث ثقافي يتجذر في التاريخ السوري

في المجالات التجميلية والصحية:

  • العناية بالبشرة: يُستخدم كمنظف ومرطب طبيعي، يساعد في توازن درجة حموضة البشرة ويخفف الاحمرار والالتهابات.
  • العناية بالشعر: يقوي جذور الشعر ويمنحه لمعاناً ورائحة زكية.
  • علاج العيون المتعبة: يُستعمل ككمادات باردة لتهدئة العينين وتخفيف الانتفاخ.
  • مضاد للأكسدة: يحتوي على فيتامينات A وC وE التي تحارب الشيخوخة المبكرة.

في المطبخ والحلويات:

  • يُضاف إلى المشروبات الباردة كالجلاب والشراب السوري التقليدي.
  • يدخل في صناعة الحلويات الشرقية كالبقلاوة والمعمول والراحة.
  • يُستخدم في تحضير بعض الأطباق التقليدية كالأرز بالحليب.
  • يُرش على القهوة العربية في المناسبات الخاصة.

هل سمعت به من قبل كمكون أساسي في وصفات الجدات السوريات؟ لقد كانت جدتي تحتفظ بزجاجة من ماء الورد الدمشقي الأصلي في خزانة المطبخ، تستخدمها بحرص شديد في المناسبات المهمة فقط، وكأنها كنز لا يُفرط فيه. ومما يُذكر أن ماء الورد كان يُهدى في الأعراس والمناسبات الدينية كعربون محبة واحترام.

كيف يمكن التمييز بين الأصلي والمغشوش؟

مع انتشار المنتجات المقلدة والمغشوشة في الأسواق، أصبح من الضروري معرفة طرق التمييز بين ماء الورد الأصلي المُقطر تقليدياً وبين المنتجات الصناعية. فهل يا ترى يمكن للمستهلك العادي اكتشاف الفرق؟ الإجابة نعم، من خلال عدة مؤشرات واضحة.

أولاً، اللون والشفافية: ماء الورد الأصلي شفاف تماماً أو ذو لون وردي خفيف جداً، بينما المنتجات المغشوشة غالباً ما تحتوي على ألوان صناعية قوية. ثانياً، الرائحة: العطر الطبيعي يكون ناعماً ومتعدد الطبقات، يتطور مع الوقت، بينما الرائحة الصناعية تكون حادة وثابتة. ثالثاً، الملمس: عند وضعه على البشرة، المنتج الأصلي يُمتص بسرعة دون ترك طبقة لزجة، على النقيض من ذلك، المنتجات المخلوطة بمواد كيميائية تترك أثراً دهنياً.

بالإضافة إلى ذلك، السعر يُعَدُّ مؤشراً مهماً؛ إذ إن صناعة ماء الورد الطبيعي مكلفة وتتطلب كميات كبيرة من البتلات (حوالي 3-4 كيلوغرامات لإنتاج لتر واحد)، فإذا كان السعر منخفضاً بشكل مبالغ فيه، فهذا دليل على الغش. وكذلك يجب فحص مصدر المنتج وشهادات الجودة، خاصة إذا كان يحمل علامات تجارية معروفة من المناطق المشهورة بالإنتاج كدمشق أو حمص.

اقرأ أيضاً:  النسيج في سوريا: تاريخ ورمزية وصناعة من الحرير إلى القطن

ما التحديات التي تواجه هذه الحرفة العريقة؟

واجهت صناعة ماء الورد السوري تحديات كبيرة خلال العقد الماضي، أثرت بشكل كبير على استمراريتها. إن الظروف التي مرت بها سوريا أدت إلى تدمير مساحات واسعة من حقول الورد، خاصة في الغوطة الشرقية التي كانت القلب النابض لهذه الصناعة.

التحدي الأول يتمثل في هجرة الحرفيين وأصحاب الخبرة؛ إذ غادر كثير من المزارعين والمقطرين أراضيهم بحثاً عن الأمان، مما أدى إلى فقدان المعرفة التقليدية المتراكمة عبر أجيال. التحدي الثاني يكمن في ارتفاع تكاليف الإنتاج، بسبب غلاء المحروقات اللازمة للتقطير ونقص مياه الري في بعض المناطق. من جهة ثانية، المنافسة من دول أخرى كتركيا وبلغاريا التي تنتج ماء الورد بطرق أكثر آلية وأقل تكلفة، قلصت حصة المنتج السوري في الأسواق العالمية.

بينما تسعى بعض المبادرات الفردية والجمعيات الأهلية إلى إحياء هذه الحرفة من جديد، من خلال دعم المزارعين وتوفير البذور والمعدات، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً. وعليه فإن الحفاظ على هذا التراث يتطلب جهوداً منسقة من الحكومة والقطاع الخاص والأهالي معاً، لضمان نقل هذه المهنة العريقة إلى الأجيال القادمة دون انقطاع.

خاتمة

إن صناعة ماء الورد السوري ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل هي هوية ثقافية حية، تحمل في طياتها عبق التاريخ وأصالة الحاضر. لقد قاومت هذه الحرفة عوامل الزمن والظروف القاسية، وبقيت شاهدة على إبداع الإنسان السوري وتمسكه بتراثه الأصيل. من الضروري أن ندرك قيمة هذا المنتج الفريد، ليس فقط كسلعة تجارية، بل كجسر يربطنا بماضينا ويحفظ ذاكرتنا الجماعية.

الحفاظ على طرق التقطير التقليدية يعني الحفاظ على نقاء المنتج وجودته التي لا تُضاهى، وبالتالي حماية سمعة ماء الورد السوري العالمية. إنها مسؤولية تقع على عاتق كل من يقدر قيمة التراث، سواء كان منتجاً أو مستهلكاً أو مجرد محب لهذه الرائحة الساحرة التي تنقلنا في لحظة إلى حدائق دمشق العتيقة.

هل ستساهم في دعم هذه الصناعة التراثية بشراء المنتج الأصلي ونشر الوعي بأهميتها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى