العصر الحديث

التغيرات العمرانية في حماة خلال فترة الانتداب الفرنسي: بين الأصالة والتحديث

محتوى المقالة

I. المقدمة: حماة على مفترق الطرق التاريخي

تُعد مدينة حماة، الواقعة على ضفاف نهر العاصي، من المدن السورية العريقة التي شهدت تحولات عمرانية عميقة عبر تاريخها الطويل. قبل فترة الانتداب الفرنسي، كانت حماة تجسد نموذجاً فريداً للأصالة العمرانية والنسيج الاجتماعي المتماسك، متأثرة بقرون من التقاليد العثمانية والإسلامية. ثم جاءت فترة الانتداب الفرنسي (1923-1946) لتفرض رؤية تحديثية مغايرة، مما أحدث تصادماً بين الأصالة المتجذرة ودوافع التحديث القسري. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه التغيرات العمرانية في حماة خلال فترة الانتداب، مع التركيز على التأثيرات الفرنسية على التخطيط العمراني، وإنشاء المباني الحكومية، وتطوير البنية التحتية الجديدة، واستكشاف التوتر بين الحفاظ على الطابع الأصيل للمدينة واندفاع التحديث.

لمحة عن حماة قبل الانتداب: الأصالة العمرانية والنسيج الاجتماعي

تتمتع حماة بأهمية تاريخية كبيرة، حيث كانت نقطة توقف حيوية على الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب في سوريا، ومركزاً اقتصادياً محلياً مهماً خلال العصر العثماني. يعود تاريخها إلى آلاف السنين، مع وجود أدلة أثرية من العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. أشهر ما يميز المدينة هي نواعيرها العتيقة، التي يُعتقد أن بعضها يعود إلى عام 1100 قبل الميلاد. هذه العجلات المائية الخشبية الضخمة، التي يصل قطر بعضها إلى 21 متراً، كانت حجر الزاوية في الحياة الزراعية بحماة، حيث توفر الري للحدائق الشاسعة عبر قنوات مائية (قناطر). وعلى الرغم من ملكيتها الخاصة من قبل كبار ملاك الأراضي الأثرياء، فإن أنظمة تقاسم المياه الجماعية للنواعير تؤكد نهجاً مجتمعياً ومنظماً لإدارة الموارد، وهو أمر متأصل بعمق في المجتمعات الإسلامية التقليدية.  

تميز النسيج العمراني التقليدي لحماة، شأنها شأن المدن الشرقية القديمة، بتخطيط متراص وموحد، حيث كانت المنازل تتلاصق على طول الأزقة والشوارع الضيقة التي غالباً ما تكون مسدودة. صُممت هذه البيوت لضمان أقصى درجات الخصوصية، حيث كانت تتجه نحو الداخل حول فناءات داخلية، بواجهات بسيطة ونوافذ قليلة تطل على الشارع. لم يكن هذا التخطيط عشوائياً، بل كان يتوافق منطقياً مع مُثل وقيم المجتمع الإسلامي فيما يتعلق بالتنظيم الأسري والاقتصادي، مع فصل صارم بين المناطق السكنية والتجارية.

داخل الأحياء، كانت المساحات مشتركة محلياً، وغالباً ما كانت تستخدم من قبل سكان الحي المألوفين، حيث تتقاسم عائلات متعددة فناءً واحداً. كانت المساحات العامة مثل الشوارع والحمامات والمقاهي والأسواق متاحة بشكل عام للسكان، على الرغم من أن العادات كانت تنظم الوصول لمجموعات معينة، لا سيما النساء. اعتمدت المباني على مواد محلية متوفرة بسهولة مثل الحجر الجيري، الحجر الرملي، البازلت، الرخام، الطين، والخشب. وشملت التقنيات التقليدية الأسقف المسطحة المصنوعة من الطين والألواح الخشبية المزخرفة. ساهم استخدام هذه المواد المحلية في جمالية موحدة للمدينة ووفر عزلاً حرارياً طبيعياً.  

كان الاقتصاد الحموي يعتمد تاريخياً على الصناعات الصغيرة (مثل حياكة الأقمشة ودباغة الجلود) ومعالجة المنتجات الزراعية (مثل حلج القطن وتكرير السكر). وكان جزء كبير من عمال المدينة من الحرفيين العاملين لحسابهم الخاص. سيطرت على الحياة السياسية والاقتصادية في المدينة عدد قليل من العائلات النخبوية والبارزة، التي كانت غالباً من كبار ملاك الأراضي. كان هذا الهيكل التقليدي للسلطة متشابكاً بعمق مع الأنشطة الاقتصادية للمدينة. بالإضافة إلى ذلك، كانت حماة معروفة بـ “محافظتها الإسلامية ومعارضتها الشديدة للحكم الفرنسي”.  

كان النسيج العمراني لحماة قبل الانتداب تجسيداً مباشراً لأصالتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فالمدينة، بنواعيرها الشهيرة التي تعكس إدارة جماعية للموارد وبيوتها ذات الفناءات الداخلية التي تضمن الخصوصية ، كانت تمثل نموذجاً حضرياً عضوياً ومتماسكاً. هذا التخطيط، الذي تطور عبر قرون وفقاً لقيم المجتمع الإسلامي ، لم يكن مجرد ترتيب مادي للمباني، بل كان متجذراً بعمق في الهوية المحافظة للمدينة وأساسها الاقتصادي التقليدي. ولذلك، فإن جهود التحديث الفرنسية، التي تحدت هذه المبادئ الجوهرية بشكل مباشر من خلال إدخال نماذج معمارية غريبة ومواد بناء جديدة ، لم تكن مجرد تغييرات جمالية أو وظيفية. بل شكلت تدخلاً عميقاً في نمط حياة المدينة الراسخ، مما أدى حتماً إلى الاحتكاك والمقاومة.  

جدول 1: خصائص النسيج العمراني التقليدي في حماة (قبل الانتداب)

الخاصية (Characteristic)الوصف (قبل الانتداب – Description (Pre-Mandate))المصادر (Sources)
نمط الشوارعأزقة ضيقة، غالباً ما تكون مسدودة، ذات نمط عضوي غير منتظم، تهدف إلى الخصوصية والحماية.
نوع المساكنبيوت ذات فناءات داخلية (أفنية)، بواجهات بسيطة ونوافذ قليلة تطل على الشارع، مصممة للخصوصية العائلية.
مواد البناءاستخدام واسع للمواد المحلية مثل الحجر الجيري، الحجر الرملي، البازلت، الرخام، الطين، والخشب، مما يمنح المدينة جمالية موحدة وعزلاً طبيعياً.
الفضاءات العامةمساحات مشتركة محلياً داخل الأحياء (مثل الأفنية المشتركة)، مع تنظيم عرفي للوصول، خاصة للنساء.
إدارة المياهنظام النواعير المعقدة للري، تعتمد على عجلات مائية خشبية ضخمة وقنوات مائية (قناطر)، مع إدارة جماعية للمياه.
التركيبة الاجتماعية والاقتصاديةاقتصاد يعتمد على الصناعات الصغيرة ومعالجة المنتجات الزراعية، مع نسبة كبيرة من الحرفيين العاملين لحسابهم الخاص. سيطرة عائلات نخبوية من كبار ملاك الأراضي على الحياة السياسية والاقتصادية.
الهوية الثقافيةمدينة معروفة بمحافظتها الإسلامية ومعارضتها الشديدة للحكم الأجنبي.

مقدمة حول الانتداب الفرنسي وأهدافه العمرانية في سوريا

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، مُنحت فرنسا انتداب عصبة الأمم على سوريا ولبنان في عام 1923، مما أضفى طابعاً رسمياً على سيطرتها التي بدأت في عام 1920 بموجب اتفاقية سايكس-بيكو. كان الهدف المعلن للانتداب هو تطوير موارد البلاد وإعدادها للحكم الذاتي.  

تبنت الفلسفة العمرانية الفرنسية مبادئ التخطيط الحداثي التي سعت إلى تحويل المدن الشرقية القديمة. ركز هذا النهج بشكل كبير على الطرق الواسعة و”حركة المرور” الآلية، وتقسيم المدن إلى “مناطق” وظيفية مميزة (سكنية، تجارية، صناعية)، و”هوس بالنظافة”. وغالباً ما جاءت هذه الرؤية الحداثية على حساب الهياكل الحضرية القائمة. فقد “استخف المخططون الفرنسيون بالهيكل الحضري التقليدي”، واعتبروه “غير منظم” ويستدعي “تغييراً جذرياً”.

كما تجاهلوا المواد المحلية، وشجعوا استخدام الإسمنت المصنعي، بل وحظروا استخدام المواد التقليدية في قوانين البناء. تأثر النهج الفرنسي بشكل كبير بالتخطيط الحضري الأوروبي في القرن التاسع عشر، ولا سيما تجديدات البارون هوسمان في باريس، والتي تضمنت إنشاء شوارع واسعة ومحاطة بالأشجار وواجهات مبانٍ موحدة، غالباً عن طريق هدم المناطق الحضرية القديمة وغير المنتظمة. كان هذا النموذج يُنظر إليه على أنه وسيلة لـ “تهوية وتوحيد وتجميل” المدن، ولكنه أيضاً خدم غرض استيعاب تحركات القوات العسكرية الكبيرة.  

كانت الأجندة العمرانية للانتداب الفرنسي، على الرغم من تقديمها كـ “مهمة حضارية” للتحديث والتنمية، أداة أساسية للقوة الاستعمارية. كان فرض الأشكال والمبادئ الحضرية الغربية مصمماً لإعادة تشكيل المجتمع السوري، والسيطرة على سكانه، ودمجهم في المجال الاقتصادي والاستراتيجي للإمبراطورية الفرنسية. هذا التناقض الجوهري بين الأهداف المعلنة (الإعداد للحكم الذاتي) والأساليب الفعلية (فرض السيطرة وتفتيت المجتمع) شكل التوتر الأساسي في النقاش حول “الأصالة مقابل التحديث”.  

طرح إشكالية التوازن بين الأصالة والتحديث في سياق حماة

تُقدم حماة، بتقاليدها العميقة وتاريخها الطويل من المقاومة ، دراسة حالة مقنعة لفحص التفاعل المعقد والعنيف في كثير من الأحيان بين التحديث المفروض ومرونة الأصالة المحلية. إن الطابع المميز لحماة كمدينة محافظة ومقاومة يجعلها نموذجاً مثالياً لتحليل الديناميكيات الأوسع للعمران الاستعماري. فالصراع بين “أصالتها” القوية القائمة مسبقاً والدافع الفرنسي نحو “التحديث” يخلق توتراً ديناميكياً يكشف عن الصراعات والتنازلات المتأصلة في فترة الانتداب، متجاوزاً السرد البسيط للفرض. سيتناول هذا المقال كيفية تجلي التأثيرات الفرنسية في المشهد العمراني لحماة، والمشاريع البنيوية والمعمارية المحددة، والتداعيات الاجتماعية والثقافية لهذه التحولات.  

II. حماة قبل الانتداب: ملامح الأصالة العمرانية

النسيج العمراني التقليدي: الشوارع الضيقة، البيوت الفناء، المواد المحلية

تميز النسيج العمراني التقليدي لحماة، شأنها شأن المدن الشرقية القديمة، بنمط شوارع عضوي يتكون من أزقة ضيقة، غالباً ما تكون مسدودة. صُممت المنازل لضمان أقصى درجات الخصوصية، حيث كانت تتجه نحو الداخل حول فناءات داخلية، بواجهات بسيطة ونوافذ قليلة تطل على الشارع. لم يكن هذا التخطيط “غير عقلاني”، بل كان يتوافق منطقياً مع مُثل وقيم المجتمع الإسلامي فيما يتعلق بالتنظيم الأسري والاقتصادي، مع فصل صارم بين المناطق السكنية والتجارية.  

داخل الأحياء، كانت المساحات مشتركة محلياً، وغالباً ما كانت تستخدم من قبل سكان الحي المألوفين، حيث تتقاسم عائلات متعددة فناءً واحداً. كانت المساحات العامة مثل الشوارع والحمامات والمقاهي والأسواق متاحة بشكل عام للسكان، على الرغم من أن العادات كانت تنظم الوصول لمجموعات معينة، لا سيما النساء.  

اعتمدت المباني على مواد محلية متوفرة بسهولة مثل الحجر الجيري، الحجر الرملي، البازلت، الرخام، الطين، والخشب. وشملت التقنيات التقليدية الأسقف المسطحة المصنوعة من الطين والألواح الخشبية المزخرفة. ساهم استخدام هذه المواد المحلية في جمالية موحدة للمدينة ووفر عزلاً حرارياً طبيعياً.  

كان النسيج العمراني التقليدي لحماة نظاماً متطوراً وعملياً للغاية، وليس مجرد خيار جمالي. كانت مبادئ تصميمه (الخصوصية، الأفنية الداخلية، الشوارع الضيقة) متجذرة بعمق في المعايير الاجتماعية والثقافية للمجتمع، مما عزز الهوية المحلية القوية والروابط المجتمعية. كما أن الاعتماد على المواد المحلية أكد أصالتها وتكيفها البيئي. هذا التماسك الشامل يعني أن أي فرض خارجي للتخطيط “الحديث” سيؤدي حتماً إلى تفكك اجتماعي وفقدان للهوية، يتجاوز مجرد التغيير المادي.

أهمية النواعير كرمز معماري ووظيفي

تعد نواعير حماة، التي تُعد من بين الأكبر في العالم (يصل قطر بعضها إلى 21 متراً)، ذات أهمية حاسمة للري، حيث تزود الحدائق الواسعة بالمياه عبر قنوات مائية. كان هذا النظام حيوياً لاقتصاد المدينة الزراعي. صُممت هذه العجلات المائية “السفلية” ببراعة من أنواع مختلفة من الأخشاب (الجوز للمحاور، والحور للأجزاء الأخرى) مع صناديق تجميع المياه المدمجة، وتنظمها السدود للتحكم في تدفق المياه.  

على الرغم من الملكية الخاصة، كانت عملية تشغيل النواعير وصيانتها تتم على أساس جماعي منظم، مما يعكس ممارسات تقاسم المياه التقليدية الشائعة في المجتمعات الإسلامية. وبعيداً عن فائدتها الوظيفية، أصبحت النواعير رمزاً دائماً لحماة نفسها، تمثل تراثها القديم وبراعتها الهندسية وارتباطها بنهر العاصي.  

تُعد النواعير مثالاً رئيسياً على “أصالة” حماة لأنها تجسد مزيجاً من الهندسة القديمة، والإدارة المستدامة للموارد، والتنظيم الاجتماعي الجماعي. إن تحولها إلى كونها “للعرض فقط” في العصر الحديث ينذر باحتمال أن يؤدي التحديث إلى تجريد العناصر التقليدية من حيويتها الوظيفية، وتحويلها إلى مجرد قطع تراثية بدلاً من مكونات حية للنظام الحضري. وهذا يسلط الضوء على كيف يمكن للتحديث أن يزيل وظائف الأصالة.  

التركيبة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة

تاريخياً، تركز اقتصاد حماة على الصناعات التحويلية الصغيرة (مثل حياكة الأقمشة ودباغة الجلود) ومعالجة المنتجات الزراعية (مثل حلج القطن وتكرير السكر). كان جزء كبير من عمالها الحضريين يعملون لحسابهم الخاص كحرفيين. سيطرت على الحياة السياسية والاقتصادية في المدينة عدد قليل من العائلات النخبوية والبارزة، التي كانت غالباً من كبار ملاك الأراضي. كان هذا الهيكل التقليدي للسلطة متشابكاً بعمق مع الأنشطة الاقتصادية للمدينة.  

كان اقتصاد حماة قبل الانتداب، الذي يعتمد على الإنتاج الحرفي الصغير والممتلكات الزراعية الكبيرة التي يسيطر عليها الأعيان، يمثل نموذجاً اقتصادياً تقليدياً. كان هذا الهيكل عرضة بشكل طبيعي للتصنيع على نطاق واسع والسياسات الاقتصادية الحديثة التي روج لها الفرنسيون. كما أن التفاوت في الثروة بين الأعيان والطبقات الفقيرة خلق سياقاً اجتماعياً حيث يمكن للسياسات الاقتصادية أن تفاقم التوترات القائمة أو تخلق أشكالاً جديدة من التبعية، مما قد يغذي المقاومة للتغييرات المفروضة.  

III. الفلسفة العمرانية الفرنسية وتأثيرها على المدن السورية

مبادئ التخطيط الحديثة: الطرق الواسعة، التقسيم المناطقي، التركيز على الصحة العامة

عند حصولها على الانتداب في عام 1923، أدخلت فرنسا مبادئ التخطيط الحضري الحداثي التي تهدف إلى تحويل المدن الشرقية القديمة. شملت هذه المبادئ تركيزاً قوياً على الطرق الواسعة و”حركة المرور” الآلية، وتقسيم المدن إلى “مناطق” وظيفية مميزة (سكنية، تجارية، صناعية)، و”هوس بالنظافة”.  

غالباً ما جاءت هذه الرؤية الحداثية على حساب الهياكل الحضرية القائمة. فقد “استخف المخططون الفرنسيون بالهيكل الحضري التقليدي”، واعتبروه “غير منظم” ويستدعي “تغييراً جذرياً”. كما تجاهلوا المواد المحلية، وشجعوا استخدام الإسمنت المصنعي، بل وحظروا استخدام المواد التقليدية في قوانين البناء. تأثر النهج الفرنسي بشكل كبير بالتخطيط الحضري الأوروبي في القرن التاسع عشر، ولا سيما تجديدات البارون هوسمان في باريس. تضمن ذلك إنشاء شوارع واسعة ومحاطة بالأشجار وواجهات مبانٍ موحدة، غالباً عن طريق هدم المناطق الحضرية القديمة وغير المنتظمة. كان هذا النموذج يُنظر إليه على أنه وسيلة لـ “تهوية وتوحيد وتجميل” المدن، ولكنه أيضاً خدم غرض استيعاب تحركات القوات العسكرية الكبيرة.  

لم يكن التخطيط الحضري الفرنسي مسعى فنياً محايداً، بل كان أداة قوية لفرض أيديولوجية غربية، عقلانية، واستعمارية محددة. كان التركيز على الطرق الواسعة، وتقسيم المناطق، والنظافة يخدم أغراضاً متعددة: تسهيل السيطرة العسكرية والمراقبة ، وتعزيز نظام اقتصادي جديد، والأهم من ذلك، تفكيك النسيج الحضري التقليدي الكثيف والخاص والموجه نحو المجتمع، والذي كان يُنظر إليه على أنه مقاوم و”متخلف”. شكلت هذه العملية شكلاً من أشكال المحو الثقافي، حيث استبدلت الحكمة الحضرية الأصلية بنظام مكاني غريب.  

دور المخططين الفرنسيين (مثل رينيه دانجيه وميشيل إيكوشار) وتطبيقاتهم في مدن أخرى

كان رينيه دانجيه مخططاً حضرياً فرنسياً بارزاً كُلّف بإعداد خطة شاملة لمدينة دمشق في عام 1935. ركز عمله على النظافة والبنية التحتية و”التجميل”، وغالباً ما تضمن عزل المعالم الأثرية وإزالة “الأحياء الشعبية” التقليدية لشق شوارع واسعة وصحية عبر المدينة القديمة. كان معروفاً بـ “تجاهله لـ ‘باريس القديمة'” ، بل لُقب بـ “الخطر العام” بسبب افتقاره للمعرفة بالسياق المحلي.  

في المقابل، كان ميشيل إيكوشار، وهو مهندس معماري ومخطط حضري فرنسي مؤثر آخر، يعمل على إعادة تطوير دمشق، بما في ذلك ترميم المباني التاريخية مثل قصر العظم. على الرغم من كونه حداثياً، قدر إيكوشار أيضاً أساليب البناء التقليدية وسعى إلى دمج النماذج الشرقية والغربية، باحثاً عن “طريق ثالث” في التصميم الحضري. جمع تصميمه لمتحف أنطاكية بين العناصر المعمارية السورية القديمة والتصميم الحداثي. كما ركز على مشاريع الإسكان الاجتماعي في الدار البيضاء، مع الأخذ في الاعتبار الثقافة والمناخ المحليين.  

يُبرز تورط شخصيات مثل دانجيه وإيكوشار أن التخطيط الحضري الفرنسي خلال الانتداب لم يكن نهجاً واحداً. فبينما مثل دانجيه فرضاً جذرياً، من أعلى إلى أسفل، ومدمراً في كثير من الأحيان للنماذج الغربية، يشير نهج إيكوشار إلى محاولة أكثر دقة، وإن كانت لا تزال استعمارية، للتوليف أو التكيف. وهذا يدل على وجود نقاشات داخلية أو استراتيجيات متطورة داخل إدارة الانتداب فيما يتعلق بالتوازن بين التحديث الخالص ودمج السياق المحلي، مما يعكس تعقيدات الحكم الاستعماري.

الأهداف الاستعمارية الكامنة وراء التحديث العمراني

كان “تحديث” المساحات الحضرية استراتيجية متعمدة لتعزيز السيطرة الفرنسية. فقد سهلت الشوارع الواسعة حركة القوات العسكرية والمراقبة. كما سعت فرنسا إلى إضعاف الحركات القومية من خلال تشجيع الهويات المحلية وتفتيت المجموعات الاجتماعية القائمة، مما أدى في كثير من الأحيان إلى تفاقم الانقسامات الطائفية.  

كان تطوير البنية التحتية وإعادة هيكلة المدن يهدفان أيضاً إلى دمج الاقتصاد السوري في مجال النفوذ الفرنسي، مما يسهل استخراج الموارد والتجارة، كما يتضح من تشجيع الزراعة في الجزيرة. كان نظام الانتداب يُفترض أن يُعد الأراضي للحكم الذاتي ، ولكن في الممارسة العملية، تجاهلت السياسات الفرنسية غالباً تطلعات السكان المحليين للاستقلال، مما أدى إلى مقاومة واسعة النطاق. وبالتالي، غالباً ما كانت التغييرات الحضرية تُنظر إليها على أنها فرض وليست تنمية حقيقية.  

كان التخطيط الحضري الفرنسي أداة متعددة الأوجه للقوة الإمبراطورية، تتجاوز مجرد التنمية المادية لتشمل السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. من خلال إعادة تشكيل البيئة الحضرية، هدف الفرنسيون إلى إعادة تشكيل المجتمع نفسه، وتفكيك هياكل السلطة التقليدية، وترسيخ سلطتهم مادياً وأيديولوجياً. وهذا يجعل التنمية الحضرية عدسة حاسمة يمكن من خلالها فهم الديناميكيات الأوسع للحكم الاستعماري والمقاومة.

IV. التأثيرات الفرنسية على التخطيط العمراني في حماة

تطبيق السياسات العمرانية العامة للانتداب في حماة

على الرغم من عدم توثيق خطط رئيسية تفصيلية محددة لحماة في النصوص المتوفرة، فإن حماة، بصفتها ثالث أكبر مدينة في سوريا وجزءاً من ولاية دمشق ، كانت ستخضع لسياسات التخطيط العمراني العامة التي نفذتها الإدارة الفرنسية المنتدبة في جميع أنحاء سوريا.  

كان هذا ليشمل التدخلات المحتملة مثل إدخال مبادئ التخطيط الحداثي، كإنشاء شوارع أوسع لتحسين “حركة المرور” والوصول العسكري، وتحديد مناطق وظيفية، والتركيز على النظافة العامة، وغالباً ما يكون ذلك على حساب النسيج العمراني التقليدي القائم. يوفر النهج المتبع في دمشق (خطط رينيه دانجيه لإزالة “الأحياء الشعبية” وشق شوارع واسعة) وأنطاكية (شبكات طرق واسعة عبر النسيج التاريخي) مؤشراً قوياً على أنواع التدخلات التي كانت حماة ستشهدها.  

كما بدأت السلطات الفرنسية إصلاحات في حيازة الأراضي. فقد وفر قانون الأراضي لعام 1930 (القانون رقم 3339) إطاراً قانونياً لتسجيل الأراضي واعترافاً بالملكية العقارية، مما قد يغير أنماط ملكية الأراضي التقليدية ويؤثر على فقراء الحضر. كانت هذه الإصلاحات مصدراً للاستياء، حيث عارض كبار ملاك الأراضي في حماة إصلاحات الأراضي الفرنسية المخطط لها.  

إن غياب الخطط التفصيلية المحددة لحماة لا يعني عدم وجود تأثير. بل يشير إلى أن التغيرات العمرانية في حماة كانت جزءاً من تطبيق منهجي وعام للسياسة العمرانية الاستعمارية الفرنسية عبر المدن السورية الكبرى. لم تكن هذه التغييرات مشاريع معزولة، بل كانت تهدف إلى إعادة هيكلة أساسية، تؤثر على كل شيء بدءاً من أنماط الشوارع وصولاً إلى ملكية الأراضي، وصُممت لدمج حماة في نظام إداري واقتصادي جديد، يدار مركزياً.

تأثير هذه السياسات على النسيج العمراني التقليدي وتغيير استخدامات الفضاء العام

أدت السياسات الفرنسية إلى “هدم الهيكل التقليدي واستبداله بآخر حديث”. وشمل ذلك إزالة الأحياء التقليدية الكثيفة، التي غالباً ما كانت تُعتبر “أوكاراً”. أحدث الحظر المفروض على المواد التقليدية وإنشاء مصانع الإسمنت تغييراً جذرياً في الطابع المعماري، مبتعداً عن الجمالية العضوية المستمدة من المصادر المحلية نحو طابع صناعي أكثر توحيداً. على سبيل المثال، تحولت الشرفات من الرخام إلى شرفات ذات ثلاثة جدران، واستبدلت الأسقف الخشبية بالخرسانة المسلحة.  

أعادت فرنسا تعريف مفهوم “المساحة العامة”، وغالباً ما رسخت حدوداً طبقية جديدة في المشهد الحضري. وهذا يتناقض مع المساحات المجتمعية التقليدية، الأكثر مرونة، والمنظمة محلياً داخل الأحياء. كما أن بناء الضواحي الجديدة بأسلوب غربي “حديث” وشوارعها المحاطة بالأشجار، أدى ضمنياً إلى وصم المدينة القديمة بأنها “متخلفة” وأقل شأناً، مما دفع السكان الأكثر ثراءً إلى الانتقال.  

أدت السياسات العمرانية الفرنسية في حماة إلى تفكك اجتماعي وثقافي عميق. فمن خلال التفكيك المادي للنسيج العمراني التقليدي وفرض أنظمة مكانية جديدة، عطل الفرنسيون الشبكات الاجتماعية الراسخة، والهياكل المجتمعية، وسبل العيش التقليدية. لم يكن هذا مجرد تجميل معماري، بل كان تدخلاً عميقاً غيّر الحياة اليومية، وحول التسلسلات الهرمية الاجتماعية، وساهم في الشعور بالغربة عن الهوية التاريخية للمدينة. لقد كانت التغييرات تجسيداً مادياً لمحاولة أوسع لإعادة هندسة المجتمع.

تداعيات انتفاضة حماة عام 1925 على التخطيط وإعادة الإعمار

كانت حماة معقلاً “للمحافظة الإسلامية والمعارضة الشديدة للحكم الفرنسي”. وكانت انتفاضة حماة في أكتوبر 1925، وهي حدث رئيسي في الثورة السورية الكبرى، تتضمن هجوماً للمتمردين على المنشآت الأمنية الفرنسية، بدعم من شرائح مختلفة من المجتمع الحموي، بما في ذلك الزعماء الدينيون، والبدو، والتجار، وكبار ملاك الأراضي الذين عارضوا السياسات الفرنسية، بما في ذلك إصلاحات الأراضي.  

رد الفرنسيون بقصف مكثف، مما أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا (مئات السوريين، بمن فيهم مدنيون) وأضرار واسعة النطاق في الممتلكات، بما في ذلك 115 متجراً، وسوقين، و144 منزلاً. كما قصف الفرنسيون دمشق في عام 1925 ، مما تسبب في أضرار لقصر العظم، الذي أعيد بناؤه لاحقاً بواسطة مهندسين معماريين فرنسيين.  

لقد كانت انتفاضة حماة عام 1925 نقطة تحول حاسمة حيث أصبحت المساحة الحضرية موقعاً مباشراً للصراع العنيف. فقد أتاح الرد الفرنسي، الذي اتسم بالقصف المدمر، فرصة لهم لفرض رؤيتهم الحضرية بشكل أكثر شمولاً. وهذا يوضح كيف يمكن فرض “التحديث” بالقوة، حيث تعمل إعادة الإعمار كوسيلة لترسيخ السلطة الاستعمارية مادياً وقمع المقاومة المستقبلية عن طريق تغيير تخطيط المدينة نفسه لتسهيل السيطرة والمراقبة. كما أن تدمير المراكز الاقتصادية التقليدية مثل الأسواق يسلط الضوء بشكل أكبر على الأثر الاقتصادي لهذا النظام المفروض.  

V. المباني الحكومية والبنية التحتية الجديدة: ملامح التحديث

البنية التحتية

اضطلعت الإدارة الفرنسية المنتدبة بـ “الكثير من الأعمال الإنشائية”، بما في ذلك بناء الطرق وتحسين المرافق الحضرية والخدمات العامة. كان “هوس الطرق وحركة المركبات” مبدأً أساسياً في التخطيط الحضري الفرنسي ، وكانت هذه الطرق ضرورية لكل من التنمية الاقتصادية (مثل نقل المنتجات الزراعية ) والسيطرة العسكرية.  

قبل الانتداب، كانت توجد بالفعل شبكة سكك حديدية فرنسية سورية، بما في ذلك خط دمشق-حماة، مما يشير إلى اهتمام فرنسي مستمر بالبنية التحتية لأغراض اقتصادية واستراتيجية. ومن المرجح أن الانتداب كان يهدف إلى توسيع أو تحديث هذه الشبكات. تمتعت فرنسا بسمعة طويلة الأمد كأحد رواد العالم في تصدير حلول البنية التحتية، مع تقليد عريق في التميز الهندسي في بناء القنوات والجسور والسكك الحديدية. وكانت شركات البناء الفرنسية الكبرى نشطة على الصعيد الدولي. وقد تم تطبيق هذه الخبرة بسهولة في الأراضي الخاضعة للانتداب.  

يشير “هوس الفرنسيين بالنظافة” إلى استثمارات كبيرة في أنظمة إمدادات المياه والصرف الصحي، التي كانت تعتبر من المرافق الحضرية الأساسية. وعلى الرغم من عدم تفصيل مشاريع بنية تحتية جديدة محددة  

لصالح حماة في النصوص المتوفرة، فإن حماة، كمدينة رئيسية، كانت ستستفيد مباشرة من هذه التحسينات العامة أو تخضع لها. يشير موقع المدينة على نهر العاصي واعتمادها على النواعير إلى أن إدارة المياه والبنية التحتية للري كانت ستكون ذات أهمية خاصة.  

كان تطوير البنية التحتية الفرنسية حجر الزاوية في جهود “التحديث” التي بذلوها، ولم يخدم ذلك تحسين الظروف المعيشية فحسب، بل كان يهدف في المقام الأول إلى تسهيل الإدارة الاستعمارية، واستخراج الموارد، والتنقل العسكري. كانت شبكات الطرق والاتصالات حاسمة لدمج الاقتصاد السوري في السوق العالمية (مما يعود بالنفع على المصالح الفرنسية) وللنشر السريع للقوات لقمع المقاومة. وهذا يوضح كيف كانت مشاريع “التنمية” التي تبدو مفيدة متجذرة بعمق في هيكل السلطة الاستعمارية.

المباني الحكومية

قسم الفرنسيون سوريا إلى وحدات إدارية، بما في ذلك ولاية دمشق، التي شملت حماة. استلزم هذا التنظيم الإداري إنشاء أو تكييف المباني الحكومية. من الأمثلة البارزة على ذلك قصر العظم في دمشق. فقد اشترى الفرنسيون هذا القصر العثماني الذي يعود للقرن الثامن عشر في عام 1920 واستخدموه لإيواء المعهد الفرنسي. بعد تعرضه لأضرار بالغة خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925 ، أعاد مهندسون معماريون فرنسيون، هما لوسيان كافارو وميشيل إيكوشار، بناءه. تضمن عملهما “إعادة بناء مبسطة وأقل زخرفة”، بل صمم إيكوشار منزلاً جديداً للمدير “امتزج تماماً مع جدران القصر التي تعود للقرن الثامن عشر”.  

في بيروت، عاصمة الانتداب، أصبحت العمارة الاستعمارية الفرنسية “خليطاً” من الأساليب المحلية (النيو-عثمانية والشرقية) والغربية، مع دمج مواد وتقنيات بناء مستوردة. تم إدخال عمارة هوسمان، وكان هناك تحول نحو المباني التجارية متعددة الطوابق باستخدام الإسمنت والخرسانة المسلحة. يُلاحظ أن مبنى بلدية بيروت يعكس كلاً من الأساليب العثمانية والفرنسية.  

لا تفصل النصوص المتوفرة أسماء مبانٍ حكومية فرنسية جديدة محددة في حماة. من المرجح أنه في حماة، وعلى غرار قصر العظم في دمشق، قام الفرنسيون إما بتكييف المباني الإدارية العثمانية القائمة أو بناء مبانٍ جديدة تعكس مزيجاً من العناصر المعمارية المحلية والغربية، أو أساليب غربية بحتة، اعتماداً على الوظيفة والسياق المحدد. قد تكون الأضرار التي لحقت بالمدينة خلال انتفاضة عام 1925 قد وفرت أيضاً فرصاً للبناء الجديد أو إعادة الإعمار الكبير بأسلوب متأثر بالفرنسيين.  

كان النهج المتبع في المباني الحكومية تحت الانتداب تمثيلاً معمارياً مباشراً للقوة الاستعمارية الفرنسية. تضمن ذلك إما استغلال وتكييف رموز السلطة العثمانية القائمة (مثل قصر العظم) أو بناء هياكل جديدة تعرض مزيجاً من الحداثة الغربية، وفي بعض الأحيان، إيماءة سطحية للجماليات المحلية. يمكن أن يشير عدم وجود مبانٍ إدارية جديدة محددة لحماة في النصوص إلى اعتماد أكبر على الهياكل القائمة أو برنامج بناء أقل طموحاً مقارنة بالعاصمة، لكن الفلسفة المعمارية الأساسية كانت ستظل موجودة.

VI. الجدل بين الأصالة والتحديث: التداعيات الاجتماعية والثقافية

ردود الفعل المحلية والمقاومة للتغييرات العمرانية

واجه الانتداب الفرنسي “مقاومة واسعة النطاق” في جميع أنحاء سوريا، لا سيما من السكان الحضريين والنخبة المتعلمة الذين سعوا إلى الاستقلال. كانت حماة مركزاً مهماً لهذه المعارضة، معروفة بـ “محافظتها الإسلامية ومعارضتها الشديدة للحكم الفرنسي”.  

كانت انتفاضة حماة في أكتوبر 1925 تجسيداً مباشراً وعنيفاً لهذه المقاومة. فقد تضمنت هجوماً للمتمردين على المنشآت الأمنية الفرنسية، بدعم من شرائح مختلفة من المجتمع الحموي، بما في ذلك الزعماء الدينيون، والبدو، والتجار، وكبار ملاك الأراضي الذين عارضوا السياسات الفرنسية، بما في ذلك إصلاحات الأراضي. وهذا يوضح أن التغييرات العمرانية، بما في ذلك سياسات الأراضي، كانت محفزاً مباشراً للاضطرابات.  

تحول رد الفعل الفرنسي، الذي شمل القصف المكثف الذي دمر المحلات والأسواق والمنازل في حماة ، المدينة نفسها إلى ساحة معركة. وهذا يسلط الضوء على كيف أصبحت المساحة الحضرية منطقة متنازع عليها، ترمز إلى كل من القوة الاستعمارية والتحدي المحلي.  

لم تكن أجندة “التحديث”، ولا سيما تجاهلها للهياكل الحضرية التقليدية وإصلاحات الأراضي المرتبطة بها، مجرد سياسة فنية، بل كانت تدخلاً اجتماعياً وثقافياً عميقاً غذى المقاومة المحلية بشكل مباشر. يوضح القمع العنيف لانتفاضة حماة أن الجدل بين الأصالة والتحديث لم يكن نظرياً فحسب، بل تجلى في صراع مميت، مما حول المساحات الحضرية إلى مواقع للتدمير والهوية المتحدية. وهذا يؤكد أن التخطيط الحضري كان سياسياً بعمق.

التوتر بين الحفاظ على الهوية التقليدية وتبني الأشكال الحديثة

تسبب فرض الفرنسيين للمبادئ الحداثية (الطرق الواسعة، تقسيم المناطق، النظافة) في صدام مباشر مع التقاليد المحلية المتجذرة للمدن المدمجة والموحدة المبنية بالمواد المحلية. خلق هذا الاختلاف الفلسفي الجوهري توتراً متأصلاً. أدى التحول الإلزامي إلى الإسمنت المصنعي وحظر المواد التقليدية إلى تغيير جذري في الهوية البصرية والملموسة للمدينة. كما أدى إدخال المباني متعددة الطوابق للاستثمار التجاري، لتحل محل المنازل العائلية التقليدية، إلى تغيير النسيج الحضري والديناميكيات الاجتماعية.  

ساهم ميل الفرنسيين إلى وصم المدن القديمة بأنها “متخلفة” في تقليل قيمة التراث المعماري المحلي وأنماط الحياة التقليدية، مما خلق انقساماً نفسياً داخل السكان الحضريين فيما يتعلق بهويتهم الخاصة.  

كان التوتر بين الأصالة والتحديث صراعاً على روح حماة ذاتها. فقد أدت السياسات الفرنسية إلى تفتيت “النسيج الحضري” الشامل للمدينة ، والذي كان يمثل تكاملاً سلساً للطبقات المادية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وقد أدى ذلك إلى تآكل التماسك المعماري، وتراجع الحرف اليدوية التقليدية، والابتعاد عن الحياة الموجهة نحو المجتمع، مما أسفر عن شعور بالاغتراب الثقافي وهوية حضرية مجزأة. أصبحت المدينة موقعاً لسرديات متنافسة حول التقدم والتراث.  

الإرث طويل الأمد للتدخلات العمرانية الفرنسية على هوية حماة

خدمت فترة الانتداب كـ “جسر بين الفترتين العثمانية وما بعد الاستقلال” ، مما يشير إلى أن بعض الأطر المؤسسية والإدارية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحكم الحضري، استمرت في التأثير على المدن السورية حتى بعد الاستقلال. ساهم الإرث الفرنسي، ولا سيما سياسات “فرق تسد” وتفتيت الأراضي السورية ، في عدم الاستقرار السياسي طويل الأمد والانقسامات الطائفية التي لا تزال تؤثر على سوريا.  

كما أن إدخال سياسات التصنيع واسعة النطاق، حتى لو تسارعت بعد الانتداب ، بُني على تحولات اقتصادية بدأت أو شُجعت خلال الفترة الفرنسية، مما أثر بشكل أكبر على الاقتصاد الحرفي التقليدي في حماة وخلق طبقات اجتماعية جديدة. أدى فرض النماذج الحضرية الغربية وتقليل قيمة التراث التقليدي إلى ترك حماة بهوية حضرية معقدة ومجزأة في كثير من الأحيان، تتسم بتجاور القديم والجديد، وصراع مستمر للتوفيق بين أصالتها التاريخية وضغوط التنمية الحديثة.  

لقد ترك الانتداب الفرنسي بصمة لا تمحى، متعددة الأوجه، وغالباً ما تكون إشكالية، على هوية حماة الحضرية ومسار تطورها. فـ “الحداثة” المفروضة لم تحل محل “الأصالة” ببساطة، بل خلقت مشهداً حضرياً هجيناً معقداً، لا يزال يشكل تحديات المدينة المعاصرة، بما في ذلك قضايا الحفاظ على التاريخ، والتخطيط الحضري، وعدم المساواة الاجتماعية، والاستقرار السياسي. إن فهم هذه البصمة الاستعمارية أمر بالغ الأهمية لفهم التطور العمراني لحماة وصراعاتها المستمرة.

VII. الخاتمة: إرث الانتداب في المشهد العمراني لحماة

كانت فترة الانتداب الفرنسي في حماة مرحلة تحول عمراني عميق، اتسمت بتأثير مزدوج: فمن ناحية، شهدت إدخال بنية تحتية حديثة (طرق، مرافق عامة) ومبادرات تخطيط حضري ؛ ومن ناحية أخرى، تسببت في اضطراب كبير و”أثر مدمر” على النسيج العمراني التقليدي للمدينة، والمواد المحلية، والأنماط الاجتماعية الراسخة. شهدت هذه الحقبة فرض مبادئ الحداثة الغربية، مثل الشوارع الواسعة وتقسيم المناطق الوظيفي، والتي تعارضت مع أصالة حماة المتجذرة، وتخطيطها العضوي، وعمرانها الموجه نحو الخصوصية، والذي يتمحور حول نواعيرها الأيقونية.

لقد أدخل الانتداب شكلاً متناقضاً من الحداثة إلى حماة، حداثة جلبت بعض التطورات ولكن غالباً على حساب تقويض الحكمة العمرانية الأصلية والنزاهة الثقافية. وقد أدى ذلك إلى مشهد حضري هجين، وهو مزيج معقد يعكس ديناميكيات القوة الاستعمارية، حيث تعايشت عناصر “الحداثة” المفروضة، في كثير من الأحيان بشكل غير مريح، مع بقايا “الأصالة”. لم يكن هذا استبدالاً بسيطاً، بل تحولاً قسرياً ومتراكباً.  

على الرغم من المحاولات الفرنسية لإعادة تشكيل البيئة العمرانية والنظام الاجتماعي في حماة، فإن تقاليد المدينة المتجذرة وتاريخها القوي من المقاومة، الذي تجلى في انتفاضة عام 1925، أظهرت مرونة ملحوظة لأصالتها المحلية. استمرت “المسألة الاجتماعية” والمظالم المحلية، على الرغم من إخضاعها غالباً لـ “المسألة الوطنية” من قبل النخب السورية، في تحدي السلطة الفرنسية، مما يشير إلى حدود القوة التحويلية الاستعمارية والقوة الدائمة للهياكل والهويات المحلية.

لم تكن “أصالة” حماة كياناً ثابتاً وسلبياً، بل كانت قوة ديناميكية قاومت وتكيفت، وفي بعض الأحيان استوعبت التحديث المفروض. وقد ضمن هذا التفاوض المستمر، الذي غالباً ما اتسم بالصراع، أنه بينما تغير المشهد المادي بشكل لا رجعة فيه، استمرت القيم الثقافية والاجتماعية الأساسية، مما أدى إلى حوار مستمر ومتطور بين التقليدي والحديث. أصبحت هوية المدينة شهادة على مرونتها في مواجهة الضغوط الخارجية.  

لقد تركت قرارات التخطيط العمراني والدوافع الاستعمارية الكامنة وراءها خلال الانتداب الفرنسي بصمة دائمة على حماة، وشكلت إرثها المعماري وأثرت على هويتها الحضرية المعاصرة. ولا تزال تحديات الموازنة بين الحفاظ على التاريخ والنمو الحضري السريع، ومعالجة عدم المساواة الاجتماعية، والتعامل مع إرث الانقسامات المفروضة، قضايا ذات صلة في المدن السورية اليوم. تقدم التجربة التاريخية لحماة تحت الانتداب الفرنسي دروساً حاسمة للتخطيط الحضري المعاصر والحفاظ على التراث في السياقات ما بعد الاستعمارية. فالتوترات غير المحلولة بين الحداثة المفروضة والأصالة الدائمة لا تزال تتجلى في التحديات الحضرية الحالية. ولذلك، فإن الفهم العميق لهذه الفترة التاريخية ليس أكاديمياً فحسب، بل يرتبط مباشرة بمعالجة القضايا الحالية المتعلقة بالهوية الحضرية، والتماسك الاجتماعي، والتنمية المستدامة في حماة والمدن المماثلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى