أحمد الشرع في موسكو: هل البراغماتية السياسية ضعف أم حكمة؟
كيف يحول القادة الواقعيون الاتفاقيات الموروثة إلى منصات انطلاق نحو المستقبل؟

بقلم: رئيس التحرير
حين تتقاطع السياسة مع الإرث الثقيل، يظهر الفارق الحقيقي بين من يُحسن قراءة الواقع ومن يكتفي بالصراخ في وجهه. زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو أثارت عاصفة من التساؤلات والانتقادات، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن جهل مريع بطبيعة العمل السياسي وقواعد اللعبة الدولية.
لماذا يثور المتفلسفون على كل خطوة دبلوماسية؟
لقد أصبح من المعتاد أن نرى جيشاً من المعلقين يهاجمون كل تحرك سياسي دون فهم حقيقي لسياقه أو أبعاده؛ إذ يتحدثون عن الكرامة الوطنية وكأنها شعار يُرفع في المظاهرات لا مفهوم يُبنى بالعمل الدؤوب. يُصوّرون زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى العاصمة الروسية على أنها اعتراف بالاتفاقيات التي أبرمها النظام السابق، متجاهلين حقيقة بسيطة: الدول لا تُلغي التزاماتها الدولية بقرار انفعالي أو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء المتفلسفين ينسون أن الإرث السياسي لا يُمحى بجرة قلم؛ إذ يتطلب التعامل معه براغماتية عالية وقدرة على التفاوض ضمن موازين قوى معقدة. فهل يا ترى يظنون أن القائد الجديد يستطيع أن يبدأ من صفحة بيضاء متجاهلاً كل ما سبق؟ الإجابة بالطبع لا. السياسة الحقيقية تتطلب التعامل مع الواقع كما هو، لا كما نتمنى أن يكون.
ماذا تُعَلِّمُنا التجارب التاريخية عن الاتفاقيات المجحفة؟
التاريخ مليء بأمثلة حية لدول تعاملت مع اتفاقيات وُصفت بالمجحفة، ثم حَولتها إلى نقاط انطلاق نحو القوة والسيادة. فقد عانت الصين طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من معاهدات أُطلق عليها “المعاهدات غير المتكافئة” (Unequal Treaties) مع القوى الغربية، والتي فَرضت عليها تنازلات إقليمية واقتصادية مُذِلَّة بعد حروب الأفيون. لم تستطع الصين إلغاء تلك المعاهدات فوراً، بل تعاملت معها تدريجياً بصبر إستراتيجي طويل الأمد؛ إذ ركزت على البناء الداخلي وتعزيز قدراتها، حتى أصبحت اليوم ثاني أقوى اقتصاد عالمي وقوة عظمى تفرض شروطها لا تقبلها.
كما أن اليابان قدمت نموذجاً استثنائياً في التعامل مع الهزيمة؛ إذ فُرضت عليها اتفاقية سان فرانسيسكو الأمنية عام 1951 التي قيدت سيادتها العسكرية وأبقت القواعد الأميركية على أراضيها. على النقيض من ذلك، حولت اليابان هذا القيد إلى فرصة ذهبية؛ إذ وجهت كل مواردها نحو البناء الاقتصادي والتكنولوجي، فأصبحت في غضون عقود قليلة ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وبالتالي، فإن ما بدا قيداً في البداية صار سُلَّماً للصعود.
كيف يمكن تحويل الضعف الظاهر إلى قوة مستقبلية؟
الدول الناجحة تشترك في صفات محددة عند التعامل مع الاتفاقيات الصعبة:
- القبول المؤقت بالواقع: الاعتراف بموازين القوى الحالية دون الاستسلام لها على المدى البعيد.
- التركيز على البناء الداخلي: استثمار الطاقات في تقوية الاقتصاد والتعليم والمؤسسات بدلاً من المعارك الخاسرة.
- الصبر الإستراتيجي: انتظار اللحظة المناسبة لإعادة التفاوض من موقع أقوى.
- الدبلوماسية الذكية: الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف دون الوقوع في الاصطفافات الحادة.
وكذلك، فإن ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية قبلت بشروط مهينة تحت إشراف الحلفاء في اتفاق بون-باريس عام 1952، الذي حد من سيادتها العسكرية والسياسية. من ناحية أخرى، استخدمت هذه المرحلة كنقطة انطلاق للمعجزة الاقتصادية الألمانية التي أعادتها إلى قلب أوروبا وجعلتها قوتها الاقتصادية الأولى.
ما حقيقة موقف الرئيس أحمد الشرع من الاتفاقيات الموروثة؟
إن الرئيس أحمد الشرع لم يوقع اتفاقية واحدة مع روسيا قبل توليه المسؤولية، بل ورث ملفاً شائكاً من علاقات وتعهدات امتدت لعقود. الجدير بالذكر أن الحكمة السياسية تقتضي التعامل مع هذا الإرث بواقعية لا بانفعالية؛ إذ لا يمكن لأي قائد مسؤول أن يتجاهل التزامات دولية قائمة دون أن يضع بلاده في مواجهة محتملة لا طاقة لها بها في هذه المرحلة الحرجة.
بينما ينشغل المتفلسفون بالنقد السطحي، يعمل الرئيس أحمد الشرع على إعادة ترتيب الأولويات وبناء موقف تفاوضي أقوى للمستقبل. فالسياسة الحقيقية ليست مسرحاً للشعارات الرنانة، بل ميدان للمناورات الذكية والخيارات الصعبة. وعليه فإن زيارته إلى موسكو تُعَدُّ خطوة ضمن بناء شبكة علاقات دولية متوازنة، لا اعترافاً بأي شيء أو تنازلاً عن أي حق.
هل البراغماتية السياسية تعني التخلي عن المبادئ؟
البراغماتية السياسية الناجحة تقوم على عدة ركائز أساسية:
- التمييز بين المبادئ الثابتة والتكتيكات المرنة: فالثوابت لا تُمس، لكن الأساليب تتغير حسب الظروف.
- قراءة موازين القوى بدقة: من خلال فهم نقاط القوة والضعف لدى جميع الأطراف.
- تحديد الأولويات: وذلك بالتركيز على ما يمكن تحقيقه الآن وتأجيل ما يحتاج وقتاً أطول.
- الحفاظ على خطوط الاتصال: ويكون ذلك بعدم قطع العلاقات مهما اشتدت الخلافات.
لقد رأينا في التاريخ العديد من القادة الذين رفعوا شعارات رنانة عن الكرامة والسيادة، لكنهم في النهاية أوصلوا بلدانهم إلى حافة الانهيار بسبب عدم قدرتهم على قراءة الواقع بموضوعية. من جهة ثانية، رأينا قادة آخرين اتُهموا بالضعف والتنازل، لكنهم بنوا لبلدانهم أساساً متيناً سمح لها بالنهوض لاحقاً.
ما الذي يجب أن نتعلمه من هذه التجربة؟
إن الدول لا تُقاس بكمية الاتفاقيات التي ترفضها أو بحدة خطابها الإعلامي، بل بقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص والضعف الظاهر إلى قوة مستقبلية. الرئيس أحمد الشرع يواجه مهمة بالغة الصعوبة تتطلب قدراً هائلاً من الحكمة والصبر؛ إذ عليه أن يوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية، وأن يبني دولة من رماد حرب طاحنة، وأن يتعامل مع إرث ثقيل من الاتفاقيات والتحالفات.
بالمقابل، فإن الانتقادات السطحية التي توجه إليه لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات المشهد السياسي؛ إذ تتعامل مع السياسة الدولية وكأنها لعبة فيديو يمكن فيها الضغط على زر “إعادة التشغيل” والبدء من جديد. ومما يثير السخرية أن معظم هؤلاء المنتقدين لم يديروا حتى اجتماع عمل صغير، فكيف لهم أن يحكموا على قرارات تتعلق بمصير دولة بأكملها؟
لا بد من التوضيح هنا أن هذه المقالة ليست تطبيلاً لأحمد الشرع ولا محاولة لذر الرماد في عيون القراء؛ إذ إن الهدف منها هو وضع الأمور في سياقها التاريخي والسياسي الصحيح بعيداً عن الانفعالات والشعارات الجوفاء. السبب بسيط: النقد المبني على الجهل بطبيعة العمل السياسي لا يخدم أحداً، بل يساهم في تعميق الفوضى وانتشار الإحباط بين أفراد المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصمت عن الحقائق التاريخية والتجارب الدولية المشابهة يجعلنا نكرر الأخطاء ذاتها جيلاً بعد جيل. ومما يجب التأكيد عليه أن الموضوعية تقتضي تقييم الخطوات السياسية بمعايير واقعية لا بمعايير عاطفية، وهذا بالضبط ما نسعى إليه في هذا التحليل.
خاتمة: أين تكمن الوطنية الحقيقية؟
الوطنية الحقيقية لا تُقاس بالشعارات الرنانة ولا بالرفض الأجوف، بل بالقدرة على البناء والصبر على المكاره حتى تتغير موازين القوى. يسير الرئيس أحمد الشرع على طريق وعر، لكنه طريق ضروري لمن يريد بناء دولة حقيقية لا مجرد كيان هش يتأرجح مع كل عاصفة. إذاً، المطلوب من الجميع هو الصبر والدعم وتقديم النقد البناء، لا الهدم والتشكيك في كل خطوة.
هذا وقد علمتنا التجارب التاريخية أن الشعوب التي صبرت على قياداتها في اللحظات الصعبة، ومنحتها الوقت والمساحة للعمل، كانت النتائج دائماً في صالحها. بينما الشعوب التي انساقت وراء الشعارات والانفعالات، ظلت تدور في حلقة مفرغة من الفشل والإحباط.
فهل أنتم مستعدون لأن تكونوا جزءاً من مشروع البناء الحقيقي، أم ستكتفون بدور المتفرج الناقد الذي لا يقدم شيئاً سوى الضجيج؟